عن التعامل مع الاحتياجات

1839

 

كتبه: رفيق رائف

ليس فقط الاحتياجات الأساسية

جميعنا نحتاج. وأتذكر ارتباكي يوم أن عرفت أنَّ هناك احتياجات أخرى، غير الاحتياجات الأساسية للإنسان .. فأنا أحتاج أن يتم قبولي، أحتاج لأن أُحِب ولأن أُحَب، أحتاج لأن أشعر بالقيمة في ذاتي، أحتاج لأن أتحمل المسؤولية وأن يتم التصديق بي، لأن أشعر أني محط إعجاب واهتمام، أحتاج للمس والاحتضان، أحتاج لأن أشعر بالأمان، أحتاج للمساندة والتعزية فى الأوقات الصعبة، وأحتاج للمشاركة فى أوقات الفرح، وأحتاج للصحبة فى جميع الأوقات….

 

ماذا نفعل مع احتياجاتنا؟

ولكن، ماذا نفعل مع كل هذه الاحتياجات؟ ماذا نفعل مع جوعنا الدائم لها؟ كيف نتعامل مع ذلك البكاء داخلنا الذي يطالب بإشباع جوعه فى أقرب وقت وبأي طريقة؟

في الكثير من الأحيان، لا يرى الإنسان إلا احتياجه، صوت الصراخ القادم من أعماقه الجائعة يصم أذنَيْه عن أي شيء أو أي منطق. يبحث عن تسديد احتياجه بأي طريقة؛ حتى إن كان عن طريق إلقاء نفسه فى سلة المهملات.

قد يغرق فى علاقة مؤذية لأنه يحتاج للحميمية، وقد يدمن عمله لأنه يحتاج لأن يشعر بتحقيق الذات، أو يكدس الأموال كي يشعر بالأمان الكافي، أو ينفق كل أمواله على الشراء حتى يشعر بالقليل من اللذة مع كل شيء جديد يقتنيه، أو حتى يزيف تقوى وورعًا روحيًا حتى يشعر بالقيمة والإعجاب من الآخرين، وربما لا يستطيع أن يتحدث بدون أن يرمي “إفيهات” تُضحك الآخرين لأنه يحتاج لأن يُرى.

 

نضوج التعامل مع الاحتياجات

ولكن طريق التعافي فيه نضوج فى التعامل مع تلك الاحتياجات. ولا يعني النضوج أن الاحتياجات ستُسدد جميعها، ولا يعني أن تُسدد فى جميع الأوقات، لكن يعنى تعاملًا فيه احترام واحتواء لتلك الاحتياجات.

وأعتقد أنه تكمن البداية دائمًا من الوعي؛ فلا يمكننا أن نحتوي ما لا نعرفه أو نعي به. وطالما ظلت احتياجاتنا فى تلك الغرفة المظلمة بداخلنا، غير واعيين لها؛ فستظل تقودنا ونحن غير واعيين لأفعالنا. سنظل لا نعرف لماذا تورطنا فى تلك العلاقة السامة، ولماذا غرقنا فى ذلك الإدمان، ولماذا تلفظنا بتلك الألفاظ؟!

نحتاج أن تبصر أعيننا جوعنا الداخلي بدون أي إدانة أو لوم. فهل رأيت والدًا يعنِّف طفله لأنه جائع؟ بالطبع لا. بالمثل، تحتاج لأن تتعامل مع احتياجك كطفل جائع؛ فهو مرتجف ومرعوب، وسيذهب في أي اتجاه قد يحمل -ولو قليلًا- من الأمل فى إشباع جوعه. لا تشعر بالخزي من احتياجك؛ فهل رأيت إنسانًا يشعر بالخزي لأنه جائع للطعام أو للنوم؟ بالطبع لا. احتياجاتنا النفسية لها نفس الكرامة والاحترام مثل احتياجاتنا الجسدية.

فقط اترك عينيك تريانِ احتياجاتك، شارك عنها مع دائرتك الآمنة، تكلم مع جوعك، وقل له إنك تفهمه وتشعر به. فإنكارك له هو ما يقودك لأن تسدده بطرق غير صحية. عبِّر عنه بالكتابة وبالمشاركة؛ فربما يخفف التعبير عن جوعك من وطأة ألمه بداخلك.

وإن كنت فى علاقة فيها القدر الكافي من الأمان؛ فلتعبر عن احتياجاتك للآخر، لا تدع الآخر يخمن ماذا تحتاج. فالوضوح مقوم أساسي من مقومات الأمان فى العلاقات. فلتعبر عمَّا تحتاج لمَن يستطيع تلبية ذلك الاحتياج. كن واضحًا عن جوعك وشارك الآخر به. ولكن. لتقبَلْ أيضًا محدودية ذلك الآخر؛ فهو لن يستطيع أن يسدد كل احتياجاتك فى كل الأوقات. احترم محدوديته مثلما تحترم محدوديتك.

من حقك أن تبحث عن طرق آمنة وصحية لتسديد احتياجاتك. ولكن تحتاج أن تقبل أن هناك الكثير من الأوقات التى لن تتسدد فيها تلك الاحتياجات بالكامل. فيبدو أنه طالما نحن فى هذه الحياة، سنظل جوعى بشكل أو بآخر، ونكون واهمين إذا انتظرنا أن تشبع كل احتياجاتنا كل الوقت. تحتاج أن تقبل ألم الجوع بدون أن يدفعك إلى “الرَّمْرَمَة”؛ وهي أن تسدد ذلك الجوع بأي طرق غير صحية، فتجد نفسك تجوع أكثر وأكثر.

نحتاج أن نقبل استمرارية الاحتياج أيضًا. إذا ما حظيتُ بحضن دافئ في يوم ما؛ كنت أتعجب لماذا أشعر بالجوع للحضن في اليوم التالي؟! وأشعر بالإحباط، وربما الخزي من ذلك الجوع المستمر بداخلي لأن يحتضنني أحدهم. لكننى أدركت أننى لا أتعامل بالمثل مع احتياجي للطعام، فلا أتوقع من نفسي ألَّا أجوع اليوم؛ لأننى أكلت جيدًا البارحة. فلتخبر نفسك أنه طبيعي أن تجوع، وطبيعي أن يتجدد جوعك بين الحين والآخر.

طريق النضوج فيه تعامل مع الاحتياجات، فيه تعبير ومشاركة عنها، وفيه أيضًا بحث عن بدائل صحية يمكن أن تسدد احتياجاتنا. ولكن فيه أيضًا قبول لألم الجوع، قبول لأن نتألم بالاحتياج، وأن نحترم ونحتوي ذلك الألم لا أن نتركه يقودنا.

وكلما أحببت نفسك بوعي، كلما احترمت احتياجاتك، ولم تشعر بالخزي منها؛ وكلما غفرت لنفسك إن صارت تبحث عن تسديد تلك الاحتياجات بأي طريقة، فهي فى نهاية اليوم “جائعة”. أنت لست إلهًا، وطبيعي أن تحتاج. تصالَحْ مع احتياجك، وتصالَحْ مع ألمه بداخلك؛ فإن التصالح هو مفتاح التعامل مع احتياجك.

وتذكر، أنت لست احتياجك، أنت لست جوعك .. احتياجك جزء منك، لكنه لا يحدد مَن أنت. أنت أكبر من جوعك، أنت أكبر من ألمك.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةيا فاتن تمسكي بالأمل وحاربي
المقالة القادمةحينما سمعتُ صوتي
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا