إلى تلك الليلة الفارقة

1098

بقلم: سارة المهدي

في قلبي غرفة مظلمة أضاءت بعتمتها باقي الأركان، وفقيد من حلم وحب وجدة راحلة، وسفر أخذ منا ظلاً نحتمي به. في قلبي وجع ساكن استطاع أن يخبو دون ضماد لم أخبر به أحدًا.

وفي قلبي حلم وتوقعات ما زالت مثلما خُلقت واندثرت مع الأيام.

وفي عمري سماء وغيوم ومطر جاف لا يروي ولكنها دائمًا تمطر.

وفي عقلي قرار وندم وعواقب ومسارات غير سوية، ومنتصف طرقات بلا عودة.

وأيام أفقدتني الهوية، سلبتني مبدأ حاربت لأجله، جعلتني أقبل البديل بتأنٍ، علمتني كيف أتنازل، فقط لكي تمر الأيام.

وبين عقلي والعاطفة ثغرات تتدفق منها الحياة، أحيانًا ترفق بي وأحيانًا تكون قاسية.

وبين هذا وذاك تجارب تعد أيامنا لنكون نحن اليوم بقرارت غد بناءً على أحداث أمس.

وبين عقلي والعاطفة تعلمت كيف تكون الحياة.

ذلك الشعور الخفي، ذلك الوضع الظاهر، أيام الشقاء والمحن، وفرج مع بعد الابتلاء.

تلك البسمة الهادئة بعد طول أيام أمل وعبوس، ذلك العالم الهش وحلم نذير شؤم وركن به ذكرى انهيار ذاتك وقلب عليه غبار الفقد يثقله، فإذا به يقاوم دفعات ويسقط دفعه.

وتلك الليالي الباردة، وذلك الذهن الشارد، والقرار البعيد الخائف والاحتمال الأقرب للحدوث، والوضع الحالي والأيام المقبلة علينا من بعيد.

والصديق المستمع والعبارات المحفزة والعَبرات داخل عيون طال بها السهر.

كثيرًا ما خشيت أن أودع الحياة فجأة دون أن اُرتّب أعذاري، أصحح أخطائي، أرتب غرفتي للمرة الأخيرة، أخفي تلك الوردة بين صفحات كتابي القديم. دون أن أحضن من أحب للمرّة الأخيرة.

وتلك الليلة التي غيرت من بعدها كل الليالي.

– علينا دائمًا أن نعبر الجسر معًا، لنصل للجهة الأخرى بعد تلك الليلة التي قضيناها متسائلين عن كيف صارت الأماكن بعد رحيلهم، كيف تقلبت المقادير وكيف تخطيناها.

تلك الندوب العميقة في الروح وتلك الدمعة التي عصيت أن تسقط عندما أدرك أحدنا حجم مخاوف الآخر.

جزء يريد الرحيل وجزء يريد الصمود، وعام جديد يبوح بترتيب قدر وقضاء، وعام قديم يثبت تغيرًا بدون أدنى نية ووعد قطعناه قديمًا في لحظه فرح ستمر، وقرار أخذناه في وقت غضب سينقضي.

أتدري كم كلفك الأمر لتبقى؟!

كان يهيئ لي أن هناك يدًا ما تلوح لي من الأفق لتدلني أي طريق يجب أن أسلك، ومرت الأيام لتمحو قصة اليد. ومنذ أن كبرت وأنا ألهث في طرقات لا أستفيق منها إلا في أوقات حرجة، ليس بها رجوع، حتى وإن رأيت التيه فيها أوضح من موضع قدمك، وأحيانًا كنت أجس بأطراف أصابعي الجدران وأخطو بخطى محسوبة لكي لا تخونني الأرض، لعلني أنجو. كانت هناك أوقات شديدة العتمة، شديدة البرودة، لم يكن هناك أركان تحتضن نفسك لحظات لتلملم شتاتك وتكمل مسيرتك، تجر نفسك فقط على أمل الوصول لأي وجهة أيًّا كانت.

في تلك الليلة التي جعلت فيها قلبك يغفل لوهلة، وتذكرت ماضٍيًا بعيدًا لا زالت ذكراه تقُيد خيوط قلبك الضعيف، ذلك الصباح الذي استيقظت به وأيقنت أن ما رحل لن يعود، ربما سيأتي شبيههُ، ولكنه لن يعود. وتَملكًك شعور بالتبلد وأنه لا يمكنك الركض أكثر، ثم نظرت للخلف وأيقنت أن الأمر لم يكن يستحق كل هذه المعاناة، وأخذت وقتًا لتتقبل منهج البدائل. لكنك أخيرًا فعلت وتقبلت.

ومع اقتناع تام، ومع الوقت جاءت الكثير والكثير من البدائل. حين رأيت نفسك ابتعدت عن خطتك التي طمحت لتحقيقها دومًا، وعلمت أن المصاعب هانت بمصائب أشد منها، والطريق الممهد سيكون فخًا في كثير من الأحيان.

ولعل بكاءك على فقدك ازداد حين رأيتني جانبك كأنك تبكي بكاءين، وحجبت رؤيتي بدموعك فأصبحت لا أرى إلا قلب دائمًا مكسور، وحزنك الحزين دفعني لألقى يمين على من حولك بعدم التعرض لك بسوء إلا قدر وقضاء ألقيا هما يمينهما علينا.

وقلبك العنيد الذي رفض الاستسلام، ولم يعترف بسنوات الشقاء التالية، ستكون في مأمن مع قلب وجد الشقاء ليس اختياريًا.

وألقيت عليك محبة مني تعينك على خذل جاءك من قريب أو بعيد، وتجيء بحظ مريح بعد تعثر دام ما دام، ولأن تحمي ما لم يطُله أذى فيك بعد، وترمم ما طال به ما طال، وحملت عني حمل شديد كاد أن يكسر عظمي، وبعدت عنك القشة التي كادت أن تقصم ظهرك.

فلعل من طاف البلاد بأسرها وأخذ خريطة الشمال والجنوب، وداس كل شبر وذاق تغير الفصول عليه في جميع الأرجاء البعيدة، وصنع مجدًا لا يجاريه غيره إلا قليلاً، ورفع راية إنجازاته عالية، وزاد على القائمة أهداف أخرى عاد بقلب راضٍ إلينا. عاد ووضعنا بين كفيه سنين الشقاء وأعطانا خرائط نجاته من تيه الحياة.

دعنا نقول لعل ذلك الباب المغلق الذي وقفنا على أعتابه سنين ولم يُرد علينا خير لنا.

لعل تلك المحنة التي أحنت ظهور الرجال لولاها لكنا صغار البنية ضعافًا، لن نقوى على تقلبات الزمن.

لا زلت أقدر الفرص الثانية، العوض الجميل، الصدف التي تعيد ترتيب المشاهد.

لا زلت أؤمن بخير لم ألقَه وراحة بال لم أحظَ بها وأمان لم أختبره.

المقالة السابقةأبي يراني فتاة سيئة السمعة
المقالة القادمةكيفية علاج العنف الجسدي ضد المرأة والأطفال وأثره عليهما
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا