بقلم: دعاء إمام
أُود الاختفاء تمامًا عن هذا العالم. ألتفت حولي فأجد خزائن ملابسي وأغراضي، وأشعر بأنني يجب أن أدس جسدي داخل واحدة منها وأبحث عن العزلة وكأن تلك الفكرة الساذجة ستمحوني من الوجود. رباه أخبرني، ماذا أفعل بهذا الكم الهائل من الوحدة؟! تلك الوحدة التي ترغمني أن أبقى وحولي هؤلاء البشر دون أن أشعر بهم أو يشعرون بي. أنفض تلك الهلاوس عن عقلي، أستجمع كل ما تبقى لديَّ من طاقة وألقي بنفسي في أقرب رداء، أدير المقبض المعدني للباب وأرحل، رحيلاً قصيرًا، كأني أحاول أن أقتلع روحي مني وآخدها بعيدًا عني، عن جسدي العنيد، ولا أدرك أنني في محاولة فاشلة، وأنني أحمل هذا الثقل معي في كل مكان.
أهيم على وجهي بحثًا عن معنى لهذا كله، لا أجد أي شيء على الإطلاق يصلح لسبب، أو يمنحني بعض الطمأنينة. أرتجف من هول أفكاري، وإحساسي الغامر بأن كل شيء يؤلمني ولو كان بسيطًا. لا أدري ماذا أفعل على وجه التحديد، أنتظر إجابات أسئلتي بلا أمل، ومع ذلك تدفعني تلك الحيرة أحيانًا بأن أتوقف أمام كل من يمر أمامي، وأهزه بقوة وأنا أصرخ: “متى سينتهي هذا كله؟!“.
متى سينتهي هذا الصخب بداخلي؟ ماذا أفعل هنا؟ لمَ ينتظر مني الآخرون الكثير دون أن أملك شيئًا حقيقيًا لتقديمه؟ هذا المكان مخيف للغاية. يدفعك الجميع للتظاهر بأنك على ما يرام، حتى وإن كان الحزن يأكل قلبك بلا هوادة. لا أحد يكثرث بما يكفي، يستمعون لدقائق قبل البدء في سلسلة سخيفة من النصائح غير المجدية والمزيد من المزايدات المملة. أجد نفسي أبكي كطفلة ضائعة، وأعود بنفسي لموقعي قبل أن يسقط الألم من قلبي لقدمي، ولا أقوى على السير.
أبدو للجميع خرقاء فقدت عقلها، أسمع وأرى همهماتهم ونظراتهم الحائرة يتساءلون ماذا بها، يطلقون حكمهم عليّ بعدم أحقيتي للمكوث في صومعتي، يقفون خلفي كظلي ينتظرون أسبابي، وكأني يجب أن أملك سببًا لهم، ليفهموا ماذا حل بي. أخبرهم بأني لا أملك سببًا، تتسع الأعين في دهشة واستهجان، لا بُد من أمر ما، كالموت أو المرض، كالفقر أو المصائب، أو أي من تلك المبررات الكافية لديهم، كأنهم وحدهم يملكون التعريف الخاص للحزن والوحدة، أي تعريف مخالف مرفوض، ويصبح كل شيء آخر فارغ، بلا معنى، مجرد هراء أو فراغ، ما دمت لم أقدم الوثائق المناسبة لأسبابي.
ماذا لو قلت لهم إن هذا الوجود يؤلمني حقًا؟ هل سيفهمونني؟ يسيطر عليَّ كمرض خطير، الأيام تغدو صعبة المراس، كل يوم يتفاقم داخلي شعوري بالاغتراب، حتى يكاد يبتلعني بالكامل. كل شيء حولي يدفعني إلى العزلة. يجبرني أن أبقى وحدي. لا أعتقد أنهم سيفهمون.
أسير وسط الجميع فلا أرى نفسي، أحاول أن أنخرط في الحياة فيضيع الجزء الباقي مني، وأنا أخاف أن يضيع مني ما تبقى. أتألم بحق كلما تصفحت المنشورات الحزينة المرتبة لعينَي بعناية، أحدهم يلقي بنفسه تحت عجلات القطار القاسي، كل الركاب قاسون، آخر لاذ بالفرار من فوق قمة اكتئابه، فينعيه البعض بالويل والعذاب، هنا قطة ضالة سأمها أهلها تركوها تتعذب على أحد الأرصفة أو في طريق ما، نكتفي بتصويرها والدعاء لها بالنجاة، وهناك مُحتاج لا سبيل له، يروي عنه أحدهم معاناته، أكل الهم قلبه ونال منه. هل هذا كافٍ لكم؟
كل هذا وأكثر يرغمني على الصمت والسكون، أشعر بالفزع وترتجف أوصالي، لا أفهم حجم المعاناة التي نواجهها كل يوم في روتينية مقيتة. وددت لو أن أحدًا يحتضني في مكان آمن ويخبرني بصوت هادئ: “لا شيء من هذا يحدث”. ولكن هذا يحدث، كل يوم أراه أمامي وأشعر بالخوف أكثر من ذي قبل. أتكوّم حول نفسي وأجلس في زاوية حجرتي الصغيرة، أفكر في كل شيء وأشعر بأني يجب أن أبقى وحدي، بل يجب أن أضيف على العزلة مئات الجدران لعلها تحميني من هذا الكون. هذا بديل مريح بالنسبة لي.
العزلة ليست مكانًا تعيسًا، بالتأكيد ليست مبهجة ولكنها تحميني، هنا ألقي جسدي وثقل قلبي وكلماتي في أريحية وهدوء. هنا أتلاشى بلا أثر كأني لم أوجد بالأساس، لم أشعر بهذا كله. عزلتي تفهمني ولا تُحملني ما لن أستطع حمله. أشعر بالذنب لأني رفضتها أيامًا كثيرة ونقمت على وجودي بها، كنت ألوذ بالفرار منها كأنها ستقتلني، لم أفهم أبدًا أنها حاولت آلاف المرات أن تخبرني بأن هذا مأواي وملاذي الآمن، الآن أصدقها، الآن أحب العزلة حقًا.
اقرأ أيضًا: ما بين ونس الوحدة وإثبات الذات