ألم المحبة

898

بقلم: إيلاريا عزيز

جلستُ للشروع في الكتابة، ولكنّي لم أعرف ما الذي أريد الحديث عنه بالضبط. فقط أريد أن أعتذر عن بعض الكآبة التي قد تَغلُب على ما سأكتبه اليوم. كان مزاجي عكِرًا منذ بضعة أيام، وأصابتني نوبة من الاكتئاب. بدأ شعور الوحدة يتسلل داخلي شيئًا فشيئًا. أوشكت على الدخول في نوبة قلق كعادتي. أنقذني صوت رسالة من صديقة شتت انتباهي بعيدًا عن كل الأفكار المتكالبة بعقلي.

حدثتني عن صراعها المؤلم مع الوحدة. كانت تخبرني كم أنها شخصية اجتماعية تُحب الاختلاط بالبشر، بالطبع أعلم طباعها فهي صديقتي. ما لم أكن أتوقعه شعور الوحدة الذي كانت تصارعه نتيجة لتغربها في سنتها الجامعية الأولى. تلك الرائعة الأشبه بزهرة متفتحة طيبة الرائحة لافتة للأنظار ذبلت لفترة. كان وقع ذلك صادمًا لي. كان قلبها يعتصر ليلاً دون أن يدري أحد بها. كانت تُبلل وسادتها يوميًا في صمت. كانت تخبرني عمن تحولوا لأغراب ومن كانوا على وشك أن يصيروا أغرابًا. تعرضت للظلم ولم تدرِ ما الخطأ الذي اقترفته.

حدثتني عن وجود الكثير من البشر حولها، ولكن أحدًا لم يستطع ملء الفراغ القابع بداخلها. لم يستطع أحد قط أن يشفي جروح الوحدة الجاثمة بقلبها. كانت كل الألوان باهتة شاحبة. اعتادت الصمت والهدوء، تلك التي كانت صاخبة جامحة كفرس بري. كانت الوحدة قاسية كأصابع تلتف حول عنقها محاولة خنقها. أسهبت في الحديث عن الليالي التي ظلت تصرخ فيها إلى الله شاكية حينًا ومُتهمة حينًا آخر. قلبها اعتصره الألم حتى أن جفنيها تقرَّحا من كثرة البكاء. كانت تريد أجوبة شافية عن أسئلتها: “لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا هذا الشعور الذي يقتلني؟” وغيرها من الأسئلة التي لا تنتهي ولا مجيب.

ظلت أيامًا تنتظر الجواب، ولكن لم تسمع أي شيء. كانت كالغارق الذي يريد التعلق ولو بقشة. أخيرًا قالت إنها في يوم من الأيام وجدت الجواب. كان الجواب ليّن هادئ غير متوقع. لقد وجدت الجواب بداخلها. طلبتُ منها وصف شعورها وقتها فقالت: “شعرت بصوت يحدثني داخلي قائلاً إنه يوم نهاية هذا الوجع. لقد نضجتِ. أعلم أنكِ مررتِ بالكثير من الألم، ولكنك استطعتِ الصمود”.

شعرت بهدوء يسري في أوصالها، رغم أن ذلك الصوت بداخلها لم يُفسّر أسباب كل ما حدث. نامت ليلتها في سلامٍ كرضيع في حِضن أمه. لقد قررت المُضي قُدمًا في الحياة. قالت إن بالنظر إلى كل ما حدث فقد تعلمت الكثير. أخبرتني أنها استطاعت الاعتماد على ذاتها، تلك المدللة في بيت أبيها. نَجَحت في ممارسة الرياضة بمفردها، وخسرت بعض الكيلوجرامات دون الحاجة إلى تشجيع ممن حولها. كما قالت إنها استطاعت حمل حقيبة السفر بمفردها. أغلب الظن أنها كانت تخشى ذلك الجزء تحديدًا في مرحلة الانتقال من مدينة لأُخرى.

راودني بعض الفضول، فقررت السؤال عمّا فَعلت حيال أولئك الأصدقاء الذين سار كل منهم في طريق غير الآخر. سألتُ أيضًا عن الأصدقاء الذين كانت على وشك خسارتهم ومن ظلموها. أجابتني بمصطلح عجيب لم أسمعه من قبل. قالت في هدوء: “قررت أن أُصارحهم بمشاعري ودوافعي. قررت أن أقبل ألم المحبة”.

ألم المحبة!

لم أسمع ذلك الوصف من قبل ولم يستوعبه عقلي. فشرحت لي أن ألم المحبة من وجهة نظرها هو اختيارها بمحض إرادتها أن تغفر لمن أحبت. أن تغفر حتى وهي تعلم تمام العلم أنهم قد لا يبادلونها نفس المقدار من الحب والغفران. عللت ذلك بقولها إنها تُدرك أن كل شخص يمُر بمراحل كثيرة في حياته تُشكّل نضوجه، وقد يكون هؤلاء الأشخاص ما زالوا في طور التشكيل ولم ينضجوا تمامًا بعد. شبهتهم في أذاهم لها وخذلانهم بالشوكة الساخنة التي لسعتها. قالت إنها لو لم تلمس الشوكة وهي ساخنة لما أصابتها بحروق!

أدركتُ أن تلك الصديقة لم تأخذ هذا القرار بناءً على ضعف أو تخوف من خسارتهم. بدا أنها تعلم جيدًا الطريق الذي تريد السير فيه برفقة هؤلاء الأشخاص. قررت أن تخوض الرحلة بجوارهم رُغم عِلمها بما قد تلاقيه من صعوبات. أعلم جيدًا أنها قوية كفاية لتقوم بذلك الاختيار وهي متصالحة مع ذاتها ومع من هم حولها. عجبتُ لذلك الدرس الذي تعلمته منها، تلك الفتاة التي تصغرني بستة أعوام! لا أُبالغ حينما أصفها الآن بالحكمة والشجاعة والقوة، والأهم من ذلك.. المحبة.

قررت صديقتي تقديم الغفران والحب رغم كل ألم وإساءة تعرضت لها، فقط لأنها تؤمن بقوة التشكيل والتغيير. صدّقت أن يومًا ما ستراهم أفضل مما هم عليه الآن، وستظل مؤمنة بهم. ستكون هي أيضًا أفضل مما هي عليه الآن. ستنضج. ستظل شاهدة على تبدُّل أحوالهم. ستنظر يومًا للسماء وتبتسم وتقول: “أعلم أنك فعلتها يا الله!”.

اقرأ أيضًا: تعلمت السنة الماضية المسؤولية والنضج والشعور بالإنجاز

المقالة السابقةشائعات وأخبار كاذبة حول كورونا وأثرها على الصحة النفسية
المقالة القادمةحلم الارتباط والحب: لسة في الأيام أمل مستنيينه
مساحة حرة لمشاركات القراء

1 تعليق

  1. رااااااائعة ومييزة كالعادة يا إيلاريا 😍😍⁦👌🏻⁩
    مستنيين المقالة الجاية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا