بقلم: سماح صلاح
فضاءات واسعة جميعها خضراء، نقاط حمراء ووردية متناثرة، ترجِّح أنها زهور توشك أن تتفتح، إذًا هو الربيع بلا شك. تتذكر كلمات البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا :: من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبّه النيروز في غسق الدجى :: أوائل وردٍ كُنّ بالأمسِ نُوما
إذًا تلك النقاط هي أوائل الورد بلا شك!
ترى أرجوحة على المدى البعيد تقترب. تتضح الملامح. أرجوحة قديمة، ربما يرجع تاريخ صنعها وطلائها إلى ما قبل الميلاد، ألواحها الخشبية التهمت كل الطلاء وتنصلت من لونها الأصلي، واستحالت إلى درجة من درجات البني الممتزج بالرمادي، ليكون الناتج لونًا ليس له اسم!
هل كان يعرف ذلك الرجل الذي انتزع تلك الشجرة من موطنها انتزاعًا، أنها ستكون أرجوحة تتناثر فوقها ضحكات الأطفال والمراهقات؟ لم تقل مراهقين، لأنهن بالضرورة إناث. يشعر المراهقون من الذكور أنهم باتوا رجالاً، والرجال لا يتأرجحون؛ لا يليق بهم تأرجح الأجساد. غير أن أكثرهم لا يعلمون أنه لا يليق بهم تأرجح الوعود والمبادئ أيضًا.
محاولة للاسترخاء
ماذا فعلت أنا لأستحق كل هذا العناء؟! هل كان هذا هو الحُمق المصاحب للحب؟! هل كان خطئي أن أفصحت أنني أكره أن أُكبّل أو أُهمل؟! هل كان جزاءً منصفًا أن يتركني للأبد؟ هل أخطأت حين قلت بكل ما أوتيت من شجاعة: أعطني حريتي أطلق يدي إنني أعطيت ما استبقيت شيئًا آه من قيدك أدمى معصمي لمَ أبقيه وما أبقى عليَّ؟! ما هذا؟! ألم تقل مدربة دروس التأمل أن أركز على مشهد جميل يساعدني على الاسترخاء والنوم؟ ماذا أفعل بنفسي؟ ما الذي أتى بي إلى هنا؟ لقد كنت في الحديقة أستعد لامتطاء الأرجوحة والتحليق بها عاليًا.
إذًا لأحاول من جديد. تمتد يدها إلى كوب ماء موضوع على طاولة صغيرة بجوار الفراش، ترتشف جرعة ثم تستوي مرة أخرى في وضع النوم.
لنا في الخيال حياة
غيمة وردية تتوسط الفضاء الواسع، أفترشها وأتلحف أخرى بيضاء، أتأمل السماء من حولي فأرى نجومًا متناثرة بعدد لا نهائي، جميعها تلمع، لم تكن يومًا بهذا القرب، ولا بهذه الروعة، حلمتُ مرارًا أن أقترب منها وألمسها بيدي، وها أنا ذا، يمكنني أن أجمع عددًا لا بأس به في سلة صغيرة وأحتفظ بها تذكارًا من السماء. أقمار كثيرة ولكنها أقل عددًا من النجمات، في الخيال يمكن أن يكون هناك أكثر من قمر وأكثر من شمس؛ الفضاء شاسع ولا نهائي.
يمكنني أيضًا أن أزرع الغيوم وروردًا بكل الألوان، وأن أزرع قمحًا ذهبيًا تأكل منه العصافير والبلابل وتطحن منه الأمهات ليأكل الصغار الخبز معجونًا بحب خالص، وماذا يضاهي رغيفًا لجائع لا سيما إن كان من يد أمه؟! ألم يقل محمود درويش لحبيبته أحبكِ حب القوافل واحةَ عشب وماء وحب الفقير الرغيف؟ وقال في سياق آخر أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي. قهوة الأم كذلك لها مذاق فريد، وكذلك كل ما تصنع يداها، ألا يجدر بالبشر أن يكتبوا على كل ما تصنع “صنع بقلب أم”، كما يكتب على كل شيء صنع في هذا المكان أو ذاك، أو كما يذيل الرسامون والشعراء أعمالهم بأسمائهم؟ تستحق الأم أيضًا هذه الميزة من باب حفظ الحقوق على الأقل.
تمنيت أن تكون أمي هنا لأحدثها عن كل شيء، أذكرها كلما نظرت في مرآتي وكلما سمعت صوت ضحكتي وكلما فقدت جزءًا من نفسي، لأنها لو كانت هنا لأعادته ورتبته في هيئته المعتادة، قبل أن أشعر أنا أن ثمة شيء سقط مني كما تسقط الأقلام والأوراق من تلميذ يركض.
الفقد الكبير
أذكر مشهد الفقد الكبير في ذلك اليوم الذي توقف عنده التقويم، وأصبح كل شيء سواء. هكذا هي الهزائم الكبرى تبقى في الوجدان، مخضبة بدماء سالت من المقل بدلاً من الدموع، متشحة بسواد المآتم، مغلفة بلحن جنائزي مهيب.
تمسح عبرة ترنحت على وجنتها ثم تنتبه، ما الذي أتى بي إلى هنا؟! لقد كنت أزرع قمحًا ذهبيًا فوق الغيمات! تعتدل في فراشها مرة أخرى وتبحث بشكل عشوائي عن شيء ما بجانب كأس الماء، تحت الكتاب المفتوح والموضوع مقلوبًا، حتى تتذكر في أي الصفحات توقفت، ساعة يد، هاتف محمول، مسبحة خشب الصندل، شعرت بسكينة حين لامست أصابعها الحبات الملساء، أخيرًا وجدت ضالتها، حبوب مهدئة. ابتلعت حبة كاملة، على الرغم من أن المسموح به هو نصف ما التهمت.
محاولة أخيرة
استوت في فراشها من جديد، وضعت رأسها على الوسادة الوثيرة، الموشاة ببراعم نسجت بخيوط حمراء قانية، خطوط دقيقة بلون تعشقه، صنعت لوحة صغيرة بديعة، يمتد أسفل كل برعم غصن صغير تنبثق منه وريقات خضراء.
أطلقت تنهيدة ثم تمتمت لنفسها: “لأحاول من جديد”. رمال ناعمة أكاد أشعر بوقع قدمي عليها، تكاد تتغلغل في جلدي، تتوحد في، أستنشق عبير البحر، أمشي باتجاهه، أقترب منه، أشعر أنني جزء من هذا الكل العظيم، ثم أسلم نفسي للموج وأغوص.