العيد الداخلى

863

 

بقلم ماريت ماهر

 

لم يكن العيد لديها هو ذلك المناسبة الرسمية التى يحتفل بها الجميع؛ ولكن هو ذلك اليوم الذي تستطيع أن تقف فيه على أرضها الخاصة، الأرض التي تعني شيئًا لها، وفي أغلب الأحوال لها فقط دون غيرها. هو ذلك اليوم الذي تتصل بذاتها، وتحسم صراعًا مُعلَّقًا داخلها، بين ما تريد وما تحتاج، والمفروض أو الأنسب أو الأصح.

حينما تتفق الأنا العُليا والأنا والضمير، ويتحدون ويجتمعون على أمر، بعد العديد من الجولات والمفاوضات غير الهيِّنة بالمرة. ويكون دورها خلال تلك المفاوضات هو حمل لواء توفيق الأوضاع والاتفاق، والوصول إلى حلٍّ مُرضٍ. ولكنْ كيف لثلاثة يغرد كل منهم في سبيله أن تتفق؟

مهمة ليست سهلة، ولكنها تحمل لواءَها في كل مرة. ومَن غيرها يستطيع فعلها؟ مَن غيرها يعرف الثلاثة جيدًا، ويستوعب دوافعها ويستطيع احتواءَها جميعًا؟ مَن سواها يملك القدرة على الطبطبة وقت اللزوم والشدة والحزم وقت العبث؟ مَن له تلك القدرة والسلطة والمساحة والتأثير غيرها؟!

هي الأم لثلاثتهم والصديقة والمُرشدة، والمُروضة حينما يستدعي الأمر. هي صمام الأمان وحائط الصد تجاه ميولهم ورغباتهم التي تبلغ حد الجنون في كثير من الأحيان. تظل تجاهد من أجل التقاط الأنفاس خلال تلك الجولات إلى أن تتنفس الصُّعَدَاءَ مع الهبوط على أرض مشتركة، إلى أن يستقر الوضع المتوهج داخلها. وأخيرًا هبطت أفكارها المُحلِّقة المُتصارعة على الأرض، هبوطًا آمنًا في أغلب الأوقات، ولكنه مجهد. فكيف لا يمثل مثل هذا الهبوط عيدًا؟! أو أن هذا الاتفاق لا يستحق الاحتفال؟! لطالما كانت تلك الأوقات تمثل لها عيدًا شخصيًّا.

  •       العيد كما ينبغي أن يكون

في تلك الأوقات تشعر بالسماء تبتهج فوقها، وكل ما هو حولها يبدو في أزهى صورة. مع أن الناس هم الناس، والشوارع هي ذاتها، ولكن هي ليست ذاتها، هي مَن تحررت من صراعها ومعاركها، هي مَن تستطيع أن تلتقط أنفاسها بحُرِّيَّة وعُمق لم تكن تقوى عليهما خلال المعارك الدائرة داخلها، وقت الصراع لا تعرف إلا حبس الأنفاس دون أن تدري أو تنتبه، لا تفطن لما تفعله إلا وهي تجز على أسنانها وفكُّها يرسل إشارات الألم بعد طول الضغط عليه؛ وكأنه يقول: أنا هنا، نحن هنا، رفقًا بنا.

  •       العيد هو أن تخطو خطوة أقرب نحو ذاتك

كيف لا يكون عيد حينما تخطو خطوة أقرب إلى ذاتها المليئة بالمتاهات؟! لعلَّ داخلها شديدة التعقيد أو ما بداخلها ما هو إلا انعكاس لوجه الحياة المعقد التي تملك قدرة عالية على امتصاصه واستيعابه مع الاحتفاظ به وتأمله. الحياة أكبر من أن يستوعبها كائن محدود مثلها، ولكن هي تحبها وتجد شغفها في تأملها؛ لذلك لا تكف عن محاولة هضمها، مهما كانت التبعات التي تحتملها على أثر هذا.

  •       السير داخل النفس

السير داخل النفس ممتع ومؤلم .. مهلك ومحي… يتيه ويدل. لعل في كل هذا التناقض شيئًا من المتعة. كيف لا يكون عيد حينما تستبصر على منفذ ألمها، ومن أين يتسلل لها، ولماذا يؤلمها هي بالذات؟! ولكن لا يمثل أي شيء لشخص آخر. أتساءل هل يعد حقًا “إدراك أسباب الألم” عيدًا؟ لماذا لا نتجاهله أو نخبئه أسفل السجاد؟ لماذا لا نضع رؤوسنا في الرمل عوضًا عن رؤية الأمور بوضوح؟

في الرؤية طريق، وفي الوضوح إمكانية للحياة. لعل لا وجود لحياة بدون ألم، ولكن على أحسن تقدير يكون ألمًا بوعي وإدراك يحمي من التحميل على مناطق الإصابة أو ربما التمكن من تمرين تلك المناطق فتصبح أقوى مناطق الجسد وأكثرها استخدامًا، ألمًا بوعي يحمي الآخر من نوبات تأوُّه في وجهه؛ لأنه لا يعلم -ولا أنا- أنه ضغط -من دون قصد- على ما هو مؤلم بالنسبة لي “ولي فقط”، ألمًا واعيًا يحمي الآخر والذات من الاستغلال أو الألاعيب أو الإيذاء.

  •       لعل في الإدراك سكينة .. لعل في الإدراك تعافيًا

كيف لا نحتفل؛ حينما نرى جرحًا قديمًا قد اندمل ولم يعد يؤلم؟ أو أننا استطعنا التغلُّب على الإعياء النفسي، أو -على الأقل- وجدنا السبيل للتغلب عليه؟ ولو تعلم يا عزيزي كيف أن إيجاد السبيل فقط يعد “عيدًا”!

“فهل مَن يزغرد ويعلي نداءً

لفرحة قلبٍ بجرح تخمر”

أغنية “شام” لينا شاماميان

لعل الأعياد النفسية هي التي تحسب، وليس تلك المناسبات والأحداث. كم وقت يتسم بالفرح في أجوائه ولكن من الداخل يخيم الغيوم على العقل والقلب؛ فلا نتذوق أيًّا من الفرح الخارجي! وكم من أوضاع ليس لها أي ملامح البهجة، ولكن انطلاقك الداخلي وحالة السلام الداخلي التي تملأ أعماقك قادرة على أن تقيم الأعياد والاحتفالات في كل أرجاء النفس.

أتمنى لك ولي عيدًا داخليًّا.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةالمهم أنه غيَّرني أنا
المقالة القادمة“أنا مش كامل .. طيب أنت مين؟”
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

3 تعليقات

  1. A person essentially help to make seriously articles I’d state. That is the very first time I frequented your web page and to this point? I surprised with the research you made to create this actual put up extraordinary. Fantastic job!

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا