أنا أم في عالم ليس به مكان للأمهات

1513

بقلم: سماح صلاح

انطلاقًا من مبادرة “الكاتبات والوحدة” كتبت هذه الكلمات من قلب وحدتي واغترابي

كانت تحمل شهادتها وشغفها وحلمها ومبادئها فوق كتفها، لا تنفصل عنهم ولا ينفصلون عنها، كانت تظن أنها تحمل ما لا يمكن أن يبلى، وكانت تظن أنها لبثت يومًا أو بعض يوم، ولكنها كانت أعوامًا طويلة. كل من حولها يتحدث لغة لا تعرفها، بل وكل ما حولها، فقد اعتادت أن تحدث الخزانة والموقد والأواني. تغير كل شيء في عالمها، لم تعد لديها حتى لغة مشتركة مع الأشخاص ولا الأشياء. وجدت نفسها فجأة تشبه المتنبي حین کان فی بلاد فارس، وجد نفسه فی مکان جمیل تشبه روعته روعة الربیع بین الفصول، ولکنه کان معذبًا مؤرقًا؛ فقد کان فیه غریب الوجه والید واللسان۔

قررت أن تخرج إلى الشارع لتتعلم اللغة الجديدة، وتشهر شهادتها الجامعية الكبيرة في وجوههم، وتقول لنفسها “لقد تكبدت كل العناء لأحصل عليها، تفوق في المدرسة وتفوق في الجامعة، ماذا سيريد أصحاب العمل أكثر من ذلك!”، وقدمت شهادتها هنا وهناك، لتكتشف أنها كأموال أهل الكهف، ليس لها قيمة. صاحب العمل يريد الخبرة، أو أن لا يزيد عمر المتقدم عن سبع وعشرين سنة في أفضل الأحوال، أما من تجاوزت الثلاثين بغير خبرة في أي مجال فليس لها مكان. قالت لهم بعد أن طفح بها الكيل “أنا أم كنت أرعى ابنتَي يا عديمي الإحساس”، فأجابها ذو الوجه الجامد “خذي إحساسك واعملي بالغناء أو كتابة الشعر”. حملت ابنتيها على كتفيها وذهبت.

دخلت إلى بيتها الصغير، وضعت حلمها وخلعت نعليها وهي تحمل ابنتيها، تحتمي بهما من كل شيء. أجثتهما على الأريكة وجلست في المنتصف، أحاطتهما بذراعيها. كاد الحزن يستبد بها، فانتصبت واقفة ورفعت رأسها محاولة منع عَبرة انحدرت بالفعل.

اتجهت إلى المطبخ وهي لا تعرف ماذا ستصنع، ولكنها قررت أن تصنع عشاء شهيًا لابنتيها، تبعتها ابنتها الكبرى وهي تسألها عم ستطهو، فأجابت: ما رأيك ببعض الفطائر؟ تحمست الابنة وأخذت تمثل أنها تأكل وتتلذذ بالطعم وتثني على أمها وتضحك؛ ضحكت الأم وتذكرت ذلك العبوس الذي يسخر من إحساسها ببنتيها. هل اختبر يومًا إحساسًا كهذا؟! هل شعر بحماس كبير من أجل شيء بسيط جدًا؟ هل بكى فرحًا بأول خطوة يخطوها ابنه؟ هل احتضن زوجته في لحظة ألم أو ضعف؟ هل قبَّل يد أمه ليواسي قلقها في انتظارها له حتى منتصف الليل؟ قطعًا لم يشعر بشيء من هذا، هو يشعر بالشاشات والأرقام ولا يعرف شيئًا عن الإنسان.

بدأت في تحضير المكونات: الحليب الدافئ كدفء سرير بنتيها، الزبدة المذابة كذوبان كل حلم يمكن أن يتحقق خارج هذا البيت حتى تلاشى، ثم السكر، ذكرها بابنتيها حين تلحان في الحصول على ملعقة صغيرة منه وتحذيراتها المستمرة أن هذا يؤذي الأسنان، ولكنها تلبي طلبهما على أي حال، ثم الخميرة، ذرات دقيقة كسنين عمرها التي تتزايد بعضها فوق بعض بدون خبرة! عن أي خبرة يتحدث ذلك الجاهل؟! هل يعرف ما معنى أن أكون أمًا؟! هل اطلع على ليلة واحدة مرضت فيها إحدى ابنتَي؟ هل عرف كيف تخطيت كل أزمة مرت على هذا البيت؟! هل يعرف كم ذرفت من دموع أمام كل منعطف ظننت أنه لن يمر وقدرت أن لي جناحَي فراشة لن يصمدا أمامه، ثم اكتشفت أنني إذا كنت حقًا أمتلك جناحين فهما كأجنحة الصقر لا الفراشة.

وضعت العجينة تختمر وغطتها كما لو كانت تغطي رضيعًا غفا للتو على ذراعيها، وهي تتمتم لنفسها “أنا أم.. أي وظيفة في العالم يمكن أن يقوم بها غيري إلا هذه الوظيفة!”، وأخذت تكررها عشرات أو ربما مئات المرات، حتى تثبت في ذهنها وتستقر في ضميرها. هؤلاء الحمقى ممن وضعوا قوانين سوق العمل أغفلوا كل هذا العدد من الأمهات، هل كل من تخرجت من دراستها وتفرغت لأبنائها أخطأت؟! يعاقبونها بالاستبعاد الكامل! إما الخبرة وإما أن يتقلص العمر. قفزت السنون إلى ما بعد الثلاثين. ومن يدري ربما لو عاد بي العمر إلى السن المطلوبة لاخترت أن أتلقى هاتين الهبتين من الله ولا شيء غيرهما.

كشفت الغطاء عن العجين فوجدته قد تضاعف تقريبًا، حملته بين يديها في رضا وهي تشعر أنه مثالي تمامًا، تمتمت لنفسها “كان دقيقًا أبيض رقيقًا كقلبي في أول الرحلة، ثم عجين متماسك ليس صلبًا تمامًا، ولكن يكفيني أنه لا يطير من نفخة هواء. كقلبي في منتصف الرحلة”.

أخذت تشكل العجين وما زال شعور الاستبعاد يؤلمها. دمعة أخرى انحدرت على خدها ولكنها لم تبالِ، يداها مشغولتان الآن، شكَّلت الفطائر، دوائر صغيرة متساوية الحجم تقريبًا. ها هي خبرة أخرى في صنع عجين مثالي ودوائر متساوية، ثم الحشو: جبن وخضراوات، وحب كبير وليالٍ طويلة من السهر والرعاية، ثم يسأل ذلك الأحمق عن القدرة عن العمل تحت الضغط!

أودعت فطائرها في الفرن، ضبطت درجة الحرارة، وأدارت مفتاح ضبط الوقت، ولكن شيئًا ما جعلها تجلس تمامًا في مواجهة الفرن تراقب أنصاف الدوائر المحشوة وهي تنتفخ ثم تنكمش، تتلون بالأصفر ثم الذهبي، عجين متماسك صلب كان سنبلات ذهبية ذات يوم، الآن استعاد لونه الأصلي وتماسك، ليس صلبًا تمامًا ولا لينًا تمامًا.. كقلبها في آخر الرحلة.

اقرأ أيضًا: كيف تصنعين بيتزا تتخلصين بها من علاقاتك المسيئة

الأمومة.. المرادف الجديد للوحدة

أنا أم مثالية

المقالة السابقةالرسالة الأولى: لن نموت ساكتين
المقالة القادمةأول سنة أمومة: 9 أمور تعلمتها بنفسي
مساحة حرة لمشاركات القراء

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا