عندما قالت لي ابنتي لا

885

بقلم: ياسمين غبارة

وقفت ابنتي أمامي لتقول لي بصوتٍ حادٍ عالٍ، ونظراتٍ قوية: لا.. لا يا ماما مش هروح. قالتها بقوة لم أعهدها في ابنتي من قبل، نظرت إليها بتعجب، استحضرت قوتي واستخدمت نظرة الصقر التي تفلح في كل مرة، وقلت كلمات مثل: “حالاً، مفيش كلام في الموضوع ده، اسكتي خالص”، ولكني أفقت فجأة إلى أني أقف أمام ما حذرتني منه الطبيبة النفسية منذ أشهر قليلة: “لحظة التمرد”.

لحظة التمرد

شكوت إليها يومًا أن ابنتى تبدو مثالية، تفعل كل ما يطلبه منها الآخرون، لدرجة أنني لم أعد أتوقع أو أتقبل منها الخطأ ولو كان صغيرًا، وأندهش إذا صدرت عنها غلطة من تلك التي يفعلها أخوها عشر مراتٍ في اليوم الواحد. وأخذت أتساءل: هل أفعل ذلك لأنها الكبيرة، وما يأتي مع هذا الترتيب بين الإخوة من لعنات كثيرة، أم لأنها فتاةٌ هادئة أتوقع منها الانضباط والحرص، أم لأن شخصيتها وحساسيتها المفرطة وضعتها في هذا القالب مع مرور الأيام والمواقف؟

ولكن كل هذه المبررات أو المسببات لا تفي مع الأم، فأنا لست صديقة لها ولا خالة، ومن المفترض أنني أعلم عنها وأفهمها أكثر، هكذا كانت هي التربية السليمة من وجهة نظري، تذكرت أنني عندما أُنادي على أولادي ليضعوا معي طعام الغداء، فأبدأ باسمها هي أولًا، لأني أعلم أنها سترد وتحضر فورًا، وأما ابني الأصغر منها فأنادي عليه وأنا لا أتوقع منه الظهور إلا بعد مراتٍ عديدة من النداء المتصاعد، فهو يتكاسل، وأعطي له المساحة ليفعل ذلك كل مرة، ولكن ابنتي الكبيرة أتوقع منها دائمًا أن تظهر أمامي بعد أول نداء، وأن تأخذ مني أكبر عدد ممكن من الأطباق، في حين أن أخاها ينتهي به الأمر إلى توزيع الملاعق وليس أكثر، والمسألة هنا ليست فقط مسألة الأكبر والأصغر، وإنما هو موضوع مساحات مختلفة من التعامل أعطيها لأولادي بشكل متفاوت مهما كبروا.

هي قوالب وصفات نُقيّد بها أبناءنا. ورغم أن ابنتي تفعل أقصى وأكثر من المطلوب، فإنني بشكل ما اعتدت منها ذلك، وأصبحت ألوم عليها إذا تراجعت عن هذا الأداء المثالي، وهنا اصطدمت بأني أؤذي ابنتي. استشرت الطبيبة وقتها، والتي قالت لي بهدوء شديد: وماذا ستفعلين عندما تتمرد؟

نظرت إليها بدهشة وقلت: “تتمرد؟! لماذا؟! وكيف؟!

نهضت من مكانها وجلست أمامي وقالت: “لأنها بشر وأنتم جعلتموها ملاك، وتمردها هو السبيل الوحيد لخلاصها”.

كيف أتعامل مع ابنتي؟

استمرت الطبيبة في الحديث عن الصحة النفسية لأبنائنا، وظللت أستمع إليها وأنا ذاهلة، محبطة، متألمة، فمع تتابع كلماتها وجدت فهمي لما تعانيه ابنتي يزداد في عقلي، وإحساس بالذنب يكبر في نفسي، حتى فاضت به عيني الدامعة، وقلت بصوت منخفض أو مختنق:

– وماذا أفعل؟

– هوني عليكِ.

قالتها بإشفاق، ولكني لا أشعر أنني أستحق الإشفاق. أريد أن أركض إلى ابنتي أحتضنها، وأقبل يديها وقدميها، وأنظر في عينيها وأقول لها: سامحيني، أيمكن أن نؤذي أغلى ما لدينا دون أن نشعر؟! كيف ننسج بأيدينا عقدًا داخل أبنائنا؟! كيف نخلق لهم تحديات وصعوبات بدلًا من أن نحاول أن نساعدهم على تخطيها؟! مر كل ذلك أمام ذاكرتي، ووقف بيني وبين ابنتي وهي تقول لي أول “لا” صريحةً قوية.

تراجعَت نظرات الضيق والحيرة من عيني، وحلت مكانها نظرات امتنان وحب، نظرت لي ابنتي بتعجب وتردد، ولكني لم أتركها لترددها طويلًا، احتضنتها وأخذت أبكي، وكانت لفظة “لا” حرفين فقط هما اللذان تحررنا بهما من كل العتاب والغضب واضطراب الضمير.

المقالة السابقةعمليات التجميل: لماذا انتشرت لهذا الحد وما مخاطرها؟
المقالة القادمةأهمية اللعب عند الطفل: كيف تصنع مفهوم الجمال منذ الصغر؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا