لا ترى الشمس

1865

بقلم/ رنا الجميعي

لا ندرك كيف يمكن أن يؤثر فينا أقل شيء، وأكثر الأشياء صغرًا أمام عينينا. أعمل داخل طابق مغلق، هو ضمن عدة طوابق في مبنى زجاجي من الخارج، لا يُدرك من بخارجه ماذا يحدث بالداخل، كما لا يعلم من بداخله أي توقيت نحن في اليوم. خلال موسم الشتاء لا ندرك المطر، لا ندرك ظلمة الليل ولا ضياء الشمس، لا نشم الهواء. نحن معزولون بالكامل. لا أدري أي مصمم معماري قرر بناء مثل تلك الأبنية المصمتة، التي لا تتجاوب مع البيئة الموجودة حولها.

قبل ذلك كنا نعمل في دور أرضي، سقفه منخفض، غير أن بابه مفتوح على الدوام نحو الشارع، كنا نشعر بالمطر حالما يهلّ، ونجري كأطفال صغار حتى نتلمس بعض قطراته، أنا وأصدقائي لنا صورة ملتقطة تحت المطر، وأفواهنا مفتوحة عن آخرها.

نعيش طيلة حياتنا نحاول التعرف واكتشاف أنفسنا، ونجهل كيف يُمكن أن يؤثر فينا أصغر شيء، سواء كانت كلمة منطلقة من فم أحدهم، أو فعل صغير، أو بيئة ما نضطر للعيش والتعامل معها. نحن أشبه بحيوانات تجاربنا، علينا أن نحلل كل مرة دخلنا فيها لأصغر أصغر تجربة.

عشت سنوات داخل مسكن في منطقة عشوائية، ولم أدرك أني أحب الشمس، سوى بعدها بسنوات حينما اضطررت لترك مسكني هذا، وذهبت للعيش داخل غرفة لا ترى الشمس، فاكتئبت أكثر.

عملت في ذلك الطابق الزجاجي لسنوات، كنا حين نتحدث أنا وصديقاتي في العمل عن تلك المرحلة، نُقسّمها إلى فترتين، واحدة في المكان القديم وأخرى في الجديد، وفي كل مرة نقول إننا قد تغيرنا كثيرًا حين تم نقلنا، تغيرنا للأسوأ، أصبحت لا تتم لقاءاتنا الشهرية كما كانت، وأمست الأواصر بيننا بعيدة، صرنا مُنغلقين أكثر.

أقول لنفسي أني لا أحتاج هذا الكم من السنين لأدرك ماذا أحب وأكره، لست مستعدة لدفع سنوات عمري كلها لأعرف ذلك، أحس بأنها مضيعة لحياتي، عليّ أن أعرف ذلك مبكرًا لكي أتمكن من العيش على طريقتي، أو لعلي أحتاج لأن أتصالح أني سأدفع عمري كله أجرب وأحاول!

أدركت مع الوقت أني أحب الشمس، أرى ضياءها على الجدار فينشرح قلبي، ينبعث داخلي إحساس بالتفاؤل، يُنير ظلمة نفسي.

مررت عبر عدة تجارب أخذت مني الكثير، لم أقف للحظة أرى الأشلاء التي تركتها ورائي، ولا نزيف قلبي الذي ظلّ يدمي، دون أن أحاول إيقافه، لم أضع نقطة في نهاية تلك التجارب، ظلت كل تلك الأبواب مُواربة، لم أغلقها، لم أقف أمام صديقتي التي تخلت عني لأقول لها إنها أنانية وخيبت أملي فيها، أنها كانت الشخص الوحيد الذي طرقت بابه، صحيح أنها فتحت الباب، لكن بأعين باردة خالية من المحبة ثم تركتني وحدي لا أدري ماذا عليّ فعله.

أفكر أحيانًا في مقابلتها وقول ما أريد قوله لها، أجرحها كما جرحتني، أقول لها بما شعرت حين تركت لي رسالة ثقيلة على قلبي تتخلى فيها عني، تقول لي اذهبي فأنتِ وحدك تمامًا. ظللت طيلة اليوم أبكي. وفي نهاية اليوم نصحني صديق بأن أذهب لأشاهد فيلمًا، ذهبت لأرى فيلمًا عن فان جوخ، ثم اشتريت طبق العدس الذي أحبه، كنا في شتاء يناير، وعليّ أن أدفئ حالي لحالي.

شوهتني تجاربي، تركتها تستنزفني، وقفت أتفرج على نفسي وأنا أنزف.

مررت بعدة تجارب ولم أقف عندها لأعد خساراتي ومكاسبي، انفجرت فيه يومًا أبكي، وحينما سألني ما المشكلة، لم أدرِ ما هي، لم أتمكن من قول جملة مرتبة مفيدة، نصحني حينها بقضاء يومي وحدي، دون إنترنت، أجلس برفقة نفسي، أقرأ أو أتمشى. طبقت نصيحته بالفعل، ورافقتني الرواية التي أقرأ فيها وكتاب يومياتي.

يومها كنت أقرأ فقرة من الرواية، يستفزني منها شيء فأكتب في يومياتي ما يرهقني وأبكي، ظللت هكذا لساعتين، شعرت حينها بالراحة، أني أفرغت قليلاً مما يجعلني حزينة، وأني بحاجة لتكرار ذلك من وقت لآخر.

حينها أدركت أني لم أعتد الوقوف أمام نفسي، لأكتشفها وألم جراحها بهدوء، وأن عليّ فعل ذلك، عليّ السماح لها بالتكلم، بدلاً من الانشغال عنها، عليّ أن أفتح لها النافذة لترى نور الشمس.

المقالة السابقةكرب ما بعد الصدمة العاطفية: هل يحدث؟ وكيف تتعامل معه؟
المقالة القادمةهل الخوف من المجهول مرض؟ كيف تتخطي الخوف؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا