بقلم: ندا العكازي
أحببتُ دائمًا القصص الخيالية القديمة التي لم أمل مشاهدتها أو سماعها عدة مرات، ففي كل مرة تسقط على مسامعي كأنها المرة الأولى. كم حلمت أن أكون تلك الجميلة التي تأسر قلب الوحش لتنال جائزة حب الأمير الوسيم بعد انتهاء اللعنة، أو أن أكون سنووايت وأعيش في بيت الأقزام لأرى العجائب، وفي النهاية يأتي الأمير على حصانه الأبيض ينقذها من الموت ويتوجها أميرة على كل الكون. كم شاهدت سندريلا وتعاطفت معها، وانتظرت لحظة تخلصها من الساحرة الشريرة زوجة أبيها، لتذهب إلى أميرها بفستانها الزاهي المنفوش وحذائِها الزجاجي اللامع.
كنتُ أعيش في عالم الأحلام، أرفض الواقع بتفاصيله المعقدة وأحكامه البالية، ومهما تقدمت في عمري لا أكل من قصصي الخيالية، كنت أشاهدها دومًا وأحادث شخصياتِها الخيالية وأعتبرها صديقًا لي، وكنت شديدة الحرص على اقتناء الدمى التي تشبهها. بل تخيلت نفسي رسمة في علب الأفلام الكرتونية أعيش وأمرح في حدائقها.
ظللت غارقة في عالم الخيال، حتى جاءت الصدمة، تلك الصفعة التي حولت الألوان الزاهية إلى داكنة، وضحكات الجنيات الصغيرة إلى صرخات الأَبالسة.
الفقدان
كيف تستطيع الحياة بعد أن تفقد أكثر ما هو غالٍ عليك. كانت الحياة مريرة بعد فقدانك يا أمي. صدمت بواقع مُر لم يكن يعرف الحلاوة إلا من بسمة شفتيك وضحكة عينيك. غادرت عالمي الوردي لأعيش في عالم قاتم أفتح ألوانه الرمادي، ومع الوقت لم يشأ القدر أن يحرمني قصصي الخيالية، لأكون بعد عام من فراق أمي تلك السندريلا الحزينة التي اختار أبوها زوجة له لتَحِل محل أمها الحبيبة. اكتشفت أن الدموع التي أرقتها في البكاء على سندريلا ومعاناتها لم تكن كافية، فبدأتُ بالبكاء أكثر، لكن ليس على سندريلا الحكايات، بل على نفسي التي تحولت إلى سندريلا بائسة.
كم تختلف القصص الخيالية عن الواقع!
لم أكن سندريلا المستكينة الهادئة، التي تقع في خدمة إخوتها وزوجة أبيها، بل لم أسمح بهذا، فسندريلا الحكايات كانت ساذجة. كيف تقبل هذا التعسف والإكراه بنفس راضية دون أي اعتراض، بل وكانت ابتسامتها العريضة لا تفارق وجهها أيضًا. كيف استطاعت هذه السندريلا أن تكون هكذا؟
أما أنا فقد استكملت دراستي، وحاولت الالتحاق بوظيفة تتناسب مع مؤهلي الدراسي، ولكنها تطلبت الكثير من السفر، فلم يسمح لي أبي بالاستمرار، لأنها لم تتماش مع شروطه الصارمة. وبعد جدال طويل ورفض مستمر استسلمت للأمر الواقع وقبلت مكوثي في البيت أحاول الاستمتاع بوقتي، الذي تحول فيما بعد أداه تقتل روحي في صمت.
اضطررت أن ألملم ما تبقى من عزيمتي، ورسم الابتسامات الزائفة على وجهي، ليس لأجلي، ولكن كي أساعد أختي الصغيرة في تقبل الحياة وإتقان دروسها بنجاح.
كمْ هي واهية الحكايات القديمة!
ظلت سندريلا الحكايات تنتظر الأمير الذي سيُخلصها من زوجة أبيها، ويأخذها إلى قصره الجميل وحياته المترفة دون أن تلتفت إلى ماضيها البائس. أما أنا فلم أعش هذا التفاؤل والتصالح النفسي، وظللت أركض في دائرة مغلقة، لا أرى فيها سوى الألم والأحزان.
لم تصبح مخيلتي عامرة بالحكايات الوردية، بل خيمت عليها أفلام الرعب والمسوخ، بِتُ أحلم بالمتاهات وصراخي فيها، أصبحت نفسي هائمة كزومبي يشتهي القتل والثأر وفعل كل ما يصعب عليها في الواقع. لم أكن كسندريلا الحكايات صامتة ترفض جرح الآخرين، بل كنت أتحدث وأعترض على كل ما يؤذيني، وأصرخ مراتٍ عدة، لكن ليس في وجه أحد. كنت أصرخ في مِرآتي، وأحيانًا أخرى بين وسائدي، أحاول كتم صوتي المتقطع وأنفاسي الهائجة.
كنت أذهب إلى تلك الشجرة خلف منزلي وقد أهلكها الإهمال ودَبَّ فيها الإعياء، لأرتمي على جزعها، آملة أن تخرج لي جنية الأحلام بعصاها السحرية لتحول ألمي ومعاناتي إلي سعادة ورخاء، وتحقق كل رغباتي بلمساتها السحرية. كمْ تمنيت نهاية سعيدة غير النهايات المعتادة في الحكايات! تمنيتُ أن أكون قوية لأصنع كيانًا لي وواقعًا أفضل من واقعي، لكن بنفسي ليس باللجوء إلى الأمير المزعوم الذي يأتي دائمًا لينهي الحكاية نهايتها السعيدة.
كنت أرغب في الثورة على كل شيء، والذهاب بعيدًا إلى مكان لا أعرفه، لأعيش منفصلة عن حياتي القديمة التي لم أكن فيها أنا. كنت أحلم أن أغير النهايات في الحكايات، لأكون البطل الأوحد الذي يعاني في قصته، وفي النهاية يملك لنفسه الخلاص. لكن حتى هذا كان مجرد حلم في مخيلتي، فلم تختلف نهاية قصتي كسندريلا عن نهاية قصة سندريلا الحكايات، ولم يكن خلاصي بيدي، بل كان على يد ذلك الشاب الذي تقدم لخطبتي.
تذمرت قليلاً، ولكن بعد إلحاح كل من حولي ورغبتهم في خلاصي والخلاصِ مني، وافقت. بقيت أنتظر رحيلي من بيت أبي القاتم لأذهب إلى بيت آخر يحمل ألوانًا أزهى بقليل. لم تكن النهاية التي تمنيتها لنفسي، ولكن في النهاية رحلت، وكتبت نهاية قصتي كسندريلا.
لكن أعلم أني تركت ورائي سندريلا أخرى تعاني، تنتظر لحظة خلاصها، وأعلم أنه كم من سندريلات يعانين وينتظرن الخلاص والنهايات السعيدة. فلا تستسلمن للألم والظروف القاسية، واخلصن لأحلامكن، أطلقن العنان للخيال والواقع معًا، لتستمتعن بهذه الحياة. اكتبن نهايات سعيدة جديدة تختلف عن تلك النهايات في الحكايات العقيمة القديمة.
اقرأ أيضًا: شفرة سندريلا.. فقط أن تؤمن