مسلسل After Life: هل الموت يفقدنا أنفسنا؟

1586

بقلم: سلمى محمود

مشهد تكسو تفاصيله السواد!

منذ أكثر من عشرة أعوام رحل جدي لوالدتي، تلقينا الخبر عبر التليفون من خلال إِحدى القريبات، ورغم كونه جاء مبطنًا وغير صريح لكننا أدركنا من نبرة الصوت وكثرة التمهيدات أن الأمر انتهى، وأننا في طريقنا إلى توديعه إلى مثواه الأخير. ذهبت رفقة أهلي وانا ابنة الخامسة عشر من عمري إلى منزل العائلة، لم يبدُ حينها مثلما اعتدت عليه، كل الوجوه التي أعرفها بدت مختلفة أيضًا، كانت هذه تصرخ وتلك تبكي في فزع، وهذا محت الصدمة كل تعبيرات وجهه، كان مشهدًا مهيبًا تكسو كل تفاصيله السواد والحزن وله رائحة الموت.

شعرت بمشاعر خوف ورهبة غريبة لمأختبرها يومًا، أحسست بذلك الشعور الخانق الذي تشعر به عندما تحمل همًا ثقيلاً لا تعرف للخلاص منه طريقًا، ثم فجأة ينقبض قلبك وتشعر بالضيق وكأن الغرفة الواسعة صارت ضيقة لحد تكاد تخنقك. بقيت أيامًا على هذه الحال، حتى قررت أنها ستكون المرة الأخيرة التي أحضر فيها مراسم العزاء، مثلما كانت المرة الأولى، لم أرغب في تكرار تجربة تلك المشاعر مرة أخرى حتى لو كلفني ذلك خسارة البعض أحيانًا.

مسلسل درامي سوداوي أم مشهد عزاء مطول؟

الحظ السيئ يبحث عن صاحبه، فعندما شعرت باكتئاب بسيط قررت أن أبحث عن مسلسل جديد أتابعه، لربما ينسيني حزني وتعاستي، وجدت مسلسل After Life يعترض طريقي، فقررت متابعته، لأصطدم بعد ذلك بمراسم العزاء التي بقيت عمري كله أحاول الفرار منها، اجتمعت كل تفاصيلها في مسلسل واحد تحت مسمى كوميديا سوداء، والحقيقة لا أعلم أي كوميديا يمكن أن تحصل عليها وأنت تشاهد شخصًا يعاني والجميع من حوله يتألم.

صنع ريكي جيرفيه من خلال مسلسله After Life (الذي كتبه وأنتجه وأخرجه، كما لعب الدور الرئيسي به أيضًا) 12 حلقة أشبه بمراسم العزاء، وعلى الرغم من أننا لم نشاهد تلك المراسم قط في المسلسل فإننا شعرنا بسوداويتها وأحسسنا بنفس مشاعر الخوف ورجفة القلب واشتمت أنوفنا معها رائحة الموت. عرفنا الوجه الآخر من الفقد وما يعنيه أن يخطف الموت أقرب الأشخاص إليك، ويتركك محطمًا رفقة ذكريات كانت سعيدة، ولكنها صارت كسكين بارد يذبحك شيئًا فشيئًا.

قدم لنا جيرفيه فكرة الفقد من زاوية مبتكرة، بعيدة كل البعد عن الصورة النمطية المعتادة للشخص الحزين، الذي قد يملأ الدنيا صراخًا وعويلاً أو ينعزل في صمت بعيدًا عن أعين الجميع، وأيضًا بعيدًا عن كليشيهات “الحياة تمضي قدمًا” و”كل شيء قابل للتعويض”، فلا، ليست كل الخسائر قابلة للتعويض، والحياة أحيانًا تتوقف ولا تستمر مثلما يخبرنا الجميع، وإن استمرت أبدًا لن تعد مثلما كانت.

الحياة لا تمضي قدمًا أحيانًا

“توني” زوج محب، عاشق لزوجته “ليزا”، يملك وظيفة تقليدية مملة في إحدى الجرائد المحلية، التي غالبًا لا يقرأها سوى العجائز، وتُستخدم لأغراض أخرى غير القراءة. ليس لديه أصدقاء سوى زملاء عمله، إن جاز اعتبارهم أصدقاء، لا يمتلك أي هواية أو طموح شخصي، متعته الخاصة في الحياة تتمثل في أن يهرع سريعًا إلى منزله بعد انتهاء عمله، ليقضي أطول وقت ممكن بجوار محبوبته “ليزا”.

يفقد “توني” زوجته بعد معركة مع سرطان الثدي، ومعها يفقد كل أسباب الحياة، فهو من الأساس لم يملك سببًا للعيش من أجله سواها. تختفي كل مشاعر السعادة والحب، ولا يبقى سوى الألم والسخط والغضب. يتحول “توني” إلى حطام إنسان يفكر كل يوم في الانتحار، ولكن تمنعه كلبته الذي يخشي أن تموت جوعًا إن تركها ورحل. يزدري الحياة والبشر ويقرر اتباع مبدأ السخرية واللا مبالاة من كل شيء حوله، يعامل الجميع من حوله بوحشية وقسوة، فلا يهتم لمشاعرهم ولا يبالي لحزنهم، وكأنه يعاقبهم على وفاة زوجته.

يستيقظ “توني” كل يوم ليشاهد باكيًا فيديوهات زوجته التي صورتها له قبل موتها. يعد لكلبته وجبة الإفطار ويرحل إلى عمله. أثناء رحلته لعمله يلقي التحية على “جورج” الصغير في مدرسته، وينفجر غضبًا في وجه أي شخص آخر يعترض طريقه، يذهب متضررًا إلى عمله الذي لا يمثل له سوى روتين يومي عليه الامتثال له، ثم يمر بعد ذلك على والده المصاب بمرض آلزهايمر، فلا يتذكر الكثير ولكنه ما زال يذكر “ليزا” ويذكره بها، يصطحب كلبته في نزهة وخلال النزهة يمر على قبر “ليزا”، لا يتفوه بأي كلمة، فقط ينظر إليها ويرحل لمنزله ليفتح جهاز اللاب توب الخاص به ويشاهد فيديوهات زوجته مرة أخرى، ثم يشرب الخمر حتى يسقط مغشيًا عليه.

لم يستطع “توني” أن يترك يد زوجته حتى بعد وفاتها، وساعدته هي دون قصد منها عندما تركت له نفسها ليستأنس بها عبر شرائط الفيديو، ربما لعلمها أنه قد يحتاج إليها لتأخذ بيده حينما يضل الطريق، حتمًا كانت “ليزا” من محبي فيلمPs. I love you”.

حاول أن يستجيب لنصائحها بأن يمضي قدمًا ويكمل طريقه من دونها، يكوّن صداقات جديدة ويتعرف على امرأة أخرى يكمل معها حياته، ولكنه لم يستطع ذلك، ربما قابل وسيقابل أناسًا لطفاء، لكن تبقى مشكلتهم الوحيدة أنهم ليسوا “ليزا”.

لكل منا معاناته الخاصة

المسلسل لم يركز على معاناة “توني” فقط، الذي ربما كان هو الحالة الأبرز ولكنه ليس الوحيد، فـ”جيرفيه” لم ينس معاناة الآخرين أيضًا، فكل شخصية في المسلسل كانت لها معاناتها الخاصة المختلفة. شقيق زوجته الذي يعاني في زواجه ويحاول إنقاذه من الانهيار، زميلته في المكتب التي تعاني الوحدة والاكتئاب، عامل الجريدة الذي أدمن المخدرات لينسى رفيقته، ساعي البريد، صديقته العاملة في الجنس التجاري، صديقته العجوز، الشخص غريب الأطوار الذي كان كل همه أن يظهر على الصفحة الرئيسية للجريدة لنكتشف قصة مأساوية وراء ذلك، حتى كلبته كانت تخشى أن تفقده وهي تراه يوميًا يحاول إنهاء حياته بأسوأ صورة ممكنة.

الجميع يتألم، كل منهم يحمل قصصًا غير مروية تحمل ألمًا بداخلها، ولكن “توني” كان الوحيد الذي لديه الشجاعة الكافية ليظهر ألمه للجميع، ربما لذلك تعاطفوا معه وتفهموا معاناته، بل وحاولوا الأخذ بيده، وربما لأنهم رأوا أنفسهم فيه بشكل أو بآخر.

الخسارة تغيرنا.. الخسارة تجعلنا أسوأ

أكثر ما أعجبني في المسلسل أنه جعلني أقدر الألم، وأرى الصورة الكاملة منه، أتابع مشاهد الكواليس لأشخاص ظننتهم وحوشًا، لكنهم في الحقيقة ضعفاء ومكسورين، وألتمس الأعذار لأناس لم أستطع يومًا فهم لماذا أصبحوا هكذا، كنت أنتقدهم بدلاً من الوقوف بجوارهم، ولكني الآن فهمت قدر خسارتهم ومدى حزنهم وصعوبة ألمهم.

فرغم كون شخصية “توني” في المسلسل هو نموذج الشخص الذي أمقته، بل ولم أتعاطف يومًا مع هذه النوعية من البشر كثيرة الشكوى التي تضع ألمها فوق الجميع دون مراعاة لمشاعرهم وكأنهم وحدهم مَن يعاني، لكني تعاطفت معه من أول دقيقة، ربما لأن ألمه كان حقيقيًا، فهو لم يكن يحاول تهويل حزنه أو إعطاءه حجمًا أكبر من قدره، ولكنه بالفعل كان يتألم، وكل ما أصبح عليه ما هو إلا انعكاس لما يحمله من ألم جعله يتحول إلى تلك النسخة البغيضة والهشة، يستهزأ بالجميع لينسى ألمه، يثور عليهم لينفس عن غضبه، يقسو عليهم ليعوض قسوة الحياة التي اختطفت “ليزا” من بين أحضانه، وربما أيضًا لأنه كان شجاعًا بما يكفى ليظهر ألمه أمام الجميع، ويضع حزنه فوق طاولتهم، بينما نحن نتفنن طوال الوقت في ادعاء أننا بخير، ونحن أبعد ما نكون عن ذلك.

هذه قصة “توني” و”ليزا”، ربما كانت مستوحاة من خيال الكاتب أو بعض تفاصيلها حقيقة، لكن في النهاية كل مَن شاهد العمل شعر بصدق كل جزءَ به وعاش تفاصيله وكأنها قصته، مهما اختلفت حالته أو أسبابه، فربما شاهدت المسلسل وأنت محبط بعد ضياع فرصة أحلامك، وربما شاهدته وأنت تبكي بعد أن تركتك صديقتك بعد أن تخيلت أن قصتكما ستدوم إلى الأبد، ربما تذكرت صديقك الذي تغير بعد أن فقد أحد والديه، وهززت رأسك بعد أن فهمت مشاعره، وربما تشاهد العمل الآن وكل أمورك مستقرة لكن قدر الألم في المسلسل جعلك تشعر بوخزة في قلبك وتخشي أن تواجه نفس مصير “توني” يومًا ما.

المسلسل رغم ما يحمله بين طياته من ألم وحزن، وكيف يصور لنا أن الحياة قد تبدو قاسية وغير عادلة أحيانًا، فإنه أيضًا يدعونا إلى التعايش معها وتهوين قسوتها علينا وعلى مَن حولنا، فربما قد يكون خيارنا الوحيد. فحتى “توني” أدرك ذلك، ورغم ألمه كان يحاول مساعدة الآخرين وتخفيف حزنهم، وأيضًا بدء حياته من جديد رغم كل شيء.. وأخيرًا تذكر شيئًا هامًا: الجميع يعاني؛ فقط كُن لطيفًا.

المقالة السابقةروائع الأدب الغربي: اكتشافاتي الأدبية في ليالي العزل
المقالة القادمةتنمية المواهب لدى الأطفال: كيف أكتشف شغف طفلي وأنميه؟
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا