في أيام العزل المنزلي اتخذت حياتي منحى جديدًا، وهو منحى يقول “لنقوم بكل ما أجلناه”، بينما كان يدعوها العالم بالجائحة سميتها أنا الفرصة. فقد كانت حياتي قبلها مزدحمة للغاية ومُرهِقة للغاية. بعد العزل أصبح الوقت كله أمامي لأستغله في أشياء حقيقية، شغف لكل الأشياء المؤجلة. وبدأت أمضي وقتي في الأشياء المحببة، وكان أولها القراءة، تلك الهواية التي تحتاج إلى عزلة وتفصلك عن العالم حتى لو كنت بين مئات البشر. بدأت مرحلة جديدة من القراءة أسميها “التجريب”، والتي تعتمد على دخول مناطق جديدة وثقافات متنوعة في الأدب. وكان أبرز اكتشافاتي في القراءة هو الأدب الغربي ، واخترت منه الأدب الروسي والأدب الإيطالي، وبعض الأعمال من الأدب الكندي والأمريكي، والتي تحولت إلى مسلسلات مشهورة وناجحة.
الأدب الروسي وروائع ديستوفسكي وتشيخوف
كنت أنظر للكتب التي اشتريتها ولم أقرأها بحيرة، بماذا أبدأ؟ خطر لي بوازع من صديقة متمرسة في القراءة أن أستغل الفرصة في قراءة ثقافة أدبية لم أطلع عليها من قبل، وكان الأدب الروسي من ترشيحها أيضًا. بدأت في قراءة قصص قصيرة لأنطون تشيخوف تزامنًا مع روايات دوستيوفيسكي “الجريمة والعقاب” و”المراهق“. كانت الصدمة بالنسبة لي هو أن هذا الأدب رغم قدمه ونشأته في مجتمع مختلف تمامًا عن مجتمعاتنا فإنه أفضل ما عبَّر عن مكنون النفس البشرية، كأن أتوقف عند جمل بعينها وأقول “الآن فهمت”، “هذا تمامًا ما عرفته لكني لم أستطع ترجمته”، أو مشاعر بعينها وأقول “هذا تمامًا ما شعرت به لكني لم أستطع شرحه”. الأدب الروسي معني بالإنسانية بالدرجة الأولى، بالبؤس عندما يتمكن من الإنسان، بالإيمان بالله وبمنظومة القيم الأخلاقية، بالصراع الطبقي وأثره على المجتمع، بالحب والفلسفة والتطور التاريخي. تشيخوف بشكل خاص قصصه ترمز كثيرًا لرغبته في الإصلاح المجتمعي لكن بمعالجة شديدة الإنسانية.
أما دوستيوفيسكي فهو يتلبس شخصياته، معاناتهم، أفكارهم، عواطفهم، صراخهم. هذا الكاتب محلل نفسي أكثر منه أديب، لشدة ما يتعمق في النفس البشرية وغرابتها وتناقضاتها، يكتب بحساسية شديدة عن أعقد المشاعر الإنسانية، في رواية “المراهق” استطعت أن أسقط الكثير من المشاعر على ابني وأفهم كيف يمكن للمراهق أن يشعر بالاغتراب داخل نفسه، ويقيم معها حوارات غريبة وينشئ لنفسه أفكارًا غريبة ويؤمن بأشياء ويكفر بأشياء، متى يعاند ويحقد ويشعر بذاته. أسعدني كثيرًا هذا الغوص الإنساني والفلسفي في الأدب الروسي، رغم الكثير جدًا من الحكي والوصف. لكن قراءته تستحق الصبر.
الأدب الإيطالي وإبداعات إلينا فيرانتي
رباعية نابولي
أعتبر أن من أسباب امتناني للعام الماضي هو قراءاتي للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي مؤلفة “رباعية نابولي”، وهي قصة طويلة مكتوبة على أربعة أجزاء. تحكي عن امرأة في الخامسة والستين تكتب لتوثق تاريخ صداقتها بصديقة عمرها التي اختفت بدون أثر. تبدأ الحكاية من الطفولة وتستمر ليس فقط في سرد أطوار الفتاتين، لكن أيضًا تفاصيل الأحياء القديمة الفقيرة في نابولي والبيوت والعائلات، العشوائية والغوغاء والعنفوان في العلاقات. صداقة الفتاتين تشبه الضفيرة التي تربط كل الأحداث بجمالها وقبحها، تتعمق الكاتبة في سيكولوجية الفتيات من سن صغيرة مع اختلاف شخصيتهن وبرغم اختلاف طباعهن. في هذا العمل لا تستطيع أن تجزم إذا كانت الصديقتان متشابهتين أم مختلفتين تمامًا، لأنهما طوال الوقت تتقابلان في نقاط وتفترقان في نقاط. شخصيتهما تتطور بشكل معاكس، وبزوغ واحدة منهما يعني أفول الأخرى، بل وإن شخصيتهما تبهت وتشتعل بأنماط وطرق مختلفة طوال الرواية. “صديقتي المذهلة” هو الوصف الذي نراه في الصديقة الغائبة حتى نفاجأ أنه أيضًا ما وصفت به الصديقة الغائبة صديقتها التي تسرد الحكاية.
المدينة تتكلم في هذا النوع من الأدب، كل مكان وشارع ومحل ومكتبة ومدرسة، كلها كأنها أشخاص ولها تأثير وحضور. أصغر شخصية كتبت عنها الراوية بنفس الروح القوية التي كتبت بها الأبطال. وهي روح متدفقة طوال قراءتك للروايات، كل الأشياء حيّة تنبض. الخير والشر حاضران بقوة وبشكل معجز يجعل القارئ غير متأكد من فيه الخير ومن الشر. عندما تقرأ هذا العمل لا تملك إلا أن تتبع مصير بطلته كأنه مصيرك أنت. معجزة أخرى في هذا العمل هي معجزة صناعة المكائد والمصائر المتقاطعة.
حياة البالغين الكاذبة
قرأت لها أيضًا “حياة البالغين الكاذبة”، والتي تسردها فتاة في سن المراهقة وتحكي فيها حقيقة عالم الكبار الذي يتكشف لها كلما كبرت. الكاتبة كما وصفت إحدى بطلاتها “لديها القدرة على التكلم عبر الكتابة، عفويتها حاضرة بقوة، لا أثر للابتذال في الكلمة المكتوبة، صوتها منقوش في كلماتها”، وهو ما شعرته أثناء قراءة رواياتها.
روايات تحولت إلى مسلسلات
إذا كان لديك الفضول لمشاهدة عمل أدبي بعد قراءته -وهو فضول جميل يوقعك في حيرة المقارنة وعذاب التخيل وعذوبة مشاهدة خيالك معروض على شاشة- فستدهشك حتمًا قراءة أعمال أدبية من هذا النوع. يذكرني هذا الفضول بروايات نجيب محفوظ التي قرأتها في مطلع شبابي وأنا متشوقة لمشاهدة أفلامها. أو أنني أحيانًا كنت أشاهد الفيلم ثم أبحث عن الرواية وأقرأها وأبدأ في المقارنة.
حكاية الجارية
كانت مصادفة طيبة أن أستمتع بقراءة رواية “حكاية الجارية”، ثم أكتشف أن قصتها تحولت إلى مسلسل. انتهيت من الرواية أولاً وغرقت في عالم من الديستوبيا والثورة الدينية، حيث التمييز ضد المرأة وسلطة المجتمع الذكوري، حيث النساء أرحام تمشي على الأرض مسلوبات الحقوق. وحيث المظاهر الشاذة مثل “الاغتصاب الزوجي” و”الحريم والزوجات”. تميزت رواية الكاتبة الكندية مارجريت أتود بالأسلوب الشِعري العذب، القوي، والمُرعب، تعمقت في عذابات المرأة، حواراتها الداخلية، مخاوفها، وصراعها ضد التمييز من أجل أن تملك إرادتها. وهذا ما جسده المسلسل بصورة مذهلة نقل للقارئ ظلامية الرواية في وجود الألوان الفاقعة للأزياء ومشاهد الطبيعة والقصور وبيوت الخدم، بصورة تتطابق مع الرواية، حتى المشاعر والحوار والأحداث لم تختلف عن الرواية إلا في كونها مؤلمة بشكل أقل. وهذا بالطبع يشير إلى أن القصة محكمة والحبكة ذكية.
حرائق صغيرة في كل مكان
قرأت أيضًا رواية “حرائق صغيرة في كل مكان” للروائية الأمريكية سيليست إنج، وهي رواية تعلمك كيف تغير إدراكك بطريقة سلسة من أفكار محددة ومعروفة لأفكار أخرى لم تتخيل أن تتبناها. الرواية ممتلئة بالتفاصيل البصرية مع النص الأدبي شديد الرهافة تجعلك تعيش بداخل الحكاية وتجعلك تفكر في معنى الأمومة بشكل مختلف، في العلاقة بين الأسرة الواحدة، تستعيد فوران فترة المراهقة وتتعرف على جوانبها الحساسة التي نادرًا ما يتطرق لها عمل أدبي. تشغلك بفكرة القواعد التي ليس بالضرورة تجد النجاة والشرف في اتباعها. تنقل لك رؤية مختلفة عن العنصرية، والجانب النفسي المعقد للشخصيات، الخير والشر في كل شيء. بطريقة عصرية بسيطة محببة. بدأت مشاهدة المسلسل الذي يجسد نفس القصة ووجدت أن جوانبه الفنية لا تقل جمالاً عن العمل الأدبي، بل إنها أشد متعة لأنها نقلت للقارئ الصور الذهنية التي تمنى أن يراها لأبطاله وللأحداث التي خفق لها قلبه.