بقلم: آية إبراهيم
كطفل صغير لا يهدأ إلا إذا طبطب عليه أحدهم أو احتضنه، لا تنام الأطفال إلا عندما تطمئن، ولا تطمئن إلا عندما يحتضنها أحد، وكذلك أنا تمامًا، وعليه فأنا أعاني من الأرق كثيرًا هذه الفترة، أو النوم لساعات مضاعفة، لأن جسدي لا يستطيع أن يواجه مخاوفه وحده، لا أحد يشعر ولا أجيد التعبير عن تلك الرغبة تحديدًا.. الحضن.
الخروج عن النص (عن الاحتياج للحضن)
يقول الطبيب النفسي محمد طه في كتابه “الخروج عن النص”: في الصحة النفسية يحتاج الإنسان إلى 4 أحضان كحد أدنى للسلامة النفسية والجسدية، وإن صاروا 8 سيكون كفيلاً بدوام واستمرار صحة النفس والجسد، وتمام النضج النفسي يحتاج 12 حضنًا يوميًا.
الحضن دفا.. دفا جسدي.. ودفا نفسي.. وكأنك بتحط كمادات مية دافية على جراح حياتك.. وإصابات يومك.. وكدمات علاقاتك.. الحضن وجبة غذائية نفسية متكاملة.. فيها كل أنواع المقويات البروتينية والنفسية.. الحضن عزاء وطبطبة” (د.محمد طه).
حضن دافي في كون بحاله
وكثيرًا ما كنت أحتضن صديقاتي بحرارة وصدق، وهم لا يعرفن أنني أحتاج لفعل ذلك أكثر منهن، أنا من كُنت أُطمْئِن حينها حتى وإن بدا أني من يمنحهن الأمان، كان العائد الأكبر من السعادة لي. لطالما لم أعرف حلاً لمُشكلاتهم ولم أجد كلامًا يليق بأزمة يمررن بها، ولستُ من محبي الكلام المُعتاد لأني لم أجد فيه تعزية، وإن اضطررت لقوله أحيانًا، كنت أحتضنهن وأربت على أياديهن فقط، رُبما لأن هذا كل ما احتجته في مواقف أخرى مشابهة.
في موقف لا أنساه، في مرحلة الثانوية العامة، قابلت مُدرسة التاريخ بعد إجازة طويلة بين عامين دراسيين، وكنت أفتقدها، وبتلقائية احتضنتها بحرارة، كانت أمًا لنا أكثر من كونها معلمتنا، لم يكن حواجز نفسية بيننا، قالت لي وجعلتني أندهش: “حضنك صادق ودافي قوي يا آية“، كانت المرة الأولى التي يعلق فيها أحد على ملحوظة كتلك، وكان إطراء رائعًا حقًا، أن يصل شعوري دون أن أبذل جهدًا في إظهاره، ورغم أن صديقاتي كن يُشبِّهنني أحيانًا بالأمهات في مواقف مختلفة كان التعليق هذه المرة أكثر تميزًا.
أشياء لا تعرفها أمي
كعادتي أحب أن أجلس قريبة منها، أحضنها عندما تعود من العمل، على مائدة الطعام أتحرى المكان الذي تجلس فيه وأستقر بجوارها، في صالة البيت ونحن نشاهد التليفزيون أتعمد أن أقترب منها، أتشبث بيديها، أقبلهما، أو أستند برأسي على كتفها كطفلة، وتضحك هي دائمًا على طفولتي التي من المفترض أن أكون تخطيتها، على كل حال فأنا صغيرتها ولا زال لديَّ بعض فرص الدلال، هي لا تعرف أبدًا أن ثلاثة وعشرين عامًا لم تكفِ لجعلي أكبر أو أقل احتياجًا لملامستها، وأن حضنها هو سبيلي الصادق للأمان، أحيانًا حين يصيب قلبي شعور بالسوء لا أقترب منها، لأني إن حضنتها سأبكي وإن بكيت ستحزن، وكذلك أخفي عنها الكثير من أشياء تجعلني حزينة، بينما أعرف داخلي أن سبيلي الوحيد للخلاص من حزني هو حضن أمي، أو بتعبير أكثر دقة، حصنها.
حالت كورونا بيننا وبين عناق الأحبة
تعود أمي من العمل فلا تقترب من أحد إلا بعد الانتهاء من التعقيم، ونختصر في السلام ونقلل من التلامس قدر المُستطاع، تعود أختي بعدها ولا يجري صغيرها عليها إلا بعد أن تُتم الإجراءات، لأنه حفظ التعليمات جيدًا، وتأتي أختي الأخرى لزيارتنا بعد غياب ونكتفي بالمشاورة حتى الانتهاء من التعقيم، ثم نعود لنسلم وقد فقد السلام حرارته وتلقائيته، وأقول أنا في نفسي إن اللهفة تكاد تموت لأنها لا تعرف الانتظار ولو لدقائق.
في التباعد حياة
قاسية تلك الجملة لكنها شعار المرحلة، ولشدَّ ما أحزنتني عندما قرأتها! منذ متى وكان في التباعد حياة، أظن أنني أتحمل الحياة بكل ما فيها فقط بعناق أهلي وصديقاتي. لم أرَ صديقاتي منذ بدأت الأزمة ويصعب عليَّ أنه وإن التقينا سيكون السلام باردًا في مظهره، لأن كلتينا تخاف على الأخرى، ولأنه ثمة أشياء أخرى تهم العالم الآن، لم تغدُ الأزمة صحية فقط لكنها أصبحت اقتصادية، اجتماعية وإنسانية، فلتؤجل المشاعر إذًا.
ماذا يفعل المرء بحياة يشعر فيها بالخوف؟
أصبحت أشعر بالخوف والتوتر والأرق طوال الوقت، اشتقت إلى أشياء كثيرة، أهمها أن تحتضني إحدى صديقاتي أو أفعل أنا، علىّ التقبل والتحلّي بالصبر أعرف، لكني أخشى أن تطول الأزمة أكثر ويطول معها أرقي، ويكبر وسواسنا تجاه لمس الأشياء، وتستمر اللقاءات افتراضية عبر مكالمات الفيديو أو تتحول إلى جفاء ممتد ونعتاد السلامات الباردة، ربما لن نموت من الفيروس لكني أخشى أن تموت قلوبنا من الوحشة والجفاء، فقط أملي أن رحمة الله قريبة.
في الأسبوع الثاني من الحجر الصحي سألتني صديقة ما أول شيء سنقوم بفعله بعد زوال الأزمة، فكانت إجابتي أنني سألتقي بأصدقائي أو سأذهب وحدي إلى مكان أحبه وأتناول مشروبي المُفضل، واليوم أقول لن أبقى وحدي، بل سأجتمع بكل صديقاتي، أعانقهن بشدة ونعوض ما فاتنا من قلة لقاء ودفء عرفناه جيدًا ببعض.
“نتمنى لحظة تجمعنا بحبايبنا.. لا بعاد ولا غُربة ولا شوق في قلوبنا.. ده لُقانا بمعاد”.
اقرأ أيضًا: في مواجهة كورونا فيروس: الخوف إعادة اكتشاف للقلب ودروبه