من زينة رمضان إلى بالونات العيد: طقوس البهجة رغم الحزن

1037

بجسد مرهق ونفسية متعبة كنت أطل كل يوم على تلك الشرفة المقابلة لمنزلي. شرفة مبهجة تعلوها الأنوار الوضاءة مختلفة الألوان التي جهزها جيراننا للاحتفال بقدوم شهر رمضان. طوال الشهر المبارك كنت أسرح مع الأنوار بحركتها السريعة وهي تضيء وتطفئ تباعًا كطفلة تتلصص على لعبة مبهجة، فيزول عني إرهاقي لبعض الوقت، وتسري البهجة في أنحاء جسدي.

رمضان في عالم جديد لا نعرفه

استقبلت رمضان هذا العام بصخب أقل، وبقلب متوجس من وضع عام فرض نفسه على العالم أجمع، بسيطرة جائحة كورونا على المشهد. تأقلمت مع اختفاء تجمعات الأهل والرفقة حول موائد الونس الرمضانية. تأهبت نفسيًا للتعامل مع غياب بعض مظاهر رمضان. قسوت على قلبي حتى لا يهتز كلما سمعت المؤذن في المسجد المجاور معلنًا أن الصلاة في الرحال. صاحبت الأرق والنوم المضطرب اللذين يفسران شعوري بالضغط النفسي من ذلك الوضع المبهم الذي نواجهه.

وبغض النظر عن شعوري في أحيان قليلة بالارتياح للشهر في صورته تلك، كونها أكثر هدوءًا لبُعدها عن مفرمة الحياة اليومية، إلا أنه لا يمكنني إنكار حقيقة أن رمضان هذا العام لم يكن كما عهدناه، لأن العالم بأسره لم يعد هو نفسه العالم الذي نعرف.

كانت أيام رمضان تمر، وكلما مررت في ردهة شقتنا التي تعلو جدرانها زينة الخيامية، أو طالعت شرفة جيراننا المزينة بالأضواء أتوقف لأسأل نفسي: كيف استطعنا إقامة هذه الاحتفالات الصغيرة ونثرنا المبهجات على جدران منازلنا برغم وهن أرواحنا؟!

كنت أطرح على نفسي السؤال بينما تطل في خلفية رأسي تلك الصورة التي طالعتها مرة لأسرة سورية تحتفل بعيد ميلاد وسط جدران منزل هدمه القصف. شعلة احتفالية مضاءة، جدران مهدمة، ووجوه مبتسمة. ربما فقط لم تُظهِر الصورة الإحساس الحقيقي لما في القلوب. هل فرح حقيقي كما تعكس الصورة أم تتوارى بالقلوب غصة لم تستطع الكاميرا الإمساك بها؟ آلمتني الصورة وبقيت محفورة في ذهني لسبب ما. لكن برغم قسوتها شعرت أنها تنطوي على قوة ما. قوة أن تقيم الأفراح برغم سرادق الحزن المنصوبة في قلبك.

وأنا لسة قادر في الحزن أفرح

ربما نتشابه جميعًا مع تلك العائلة السورية في بعض الأحيان، حينما نقاوم الجدران التي تهدمها الحياة فوق رؤوسنا. نقف أيضًا أحيانًا على الركام لنعلق الأنوار ونحتفي رغمًا عن أي قصف وُجِّه لقلوبنا. فرغم ثقل الشعور الذي يجثم على صدري منذ بدء الحجر المنزلي، حتى وإن تفننت في إخفائه، فإنني أمسكت بنفسي متلبسة وأنا أُجهِّز لتزيين المنزل عند استقبال رمضان. ثم أمسكت بنفسي مرة أخرى متلبسة بالتفكير في تهيئة البيت لاستقبال العيد. التبس عليَّ الشعور فلم أفهمه لبعض الوقت. هل أتحايل على نفسية مهترئة بتلك التجهيزات؟ أم أنني أمارس فعل صمود؟

أتعجب كثيرًا من ذلك الخليط السحري بداخل كل منا، والذي ينتشلنا من قاع اليأس ويطفو بنا على سطح الحياة من جديد. نحن معجونون بحب الحياة مهما بدا لنا أحيانًا أننا رفعنا رايات الاستسلام البيضاء وزهدنا الاستمرار. ربما الآن فقط فهمت ما كان يشدو به الكينج “وأنا لسة قادر في الحزن أفرح“، و ما دندنته غادة رجب “برغم كل شيء قلوبنا فيها شيء بيعشق الحياة”.

منزل الجدة: دفء الطقوس والدرس الأول للصمود

الطقوس ليست مظاهر احتفالية فحسب. ربما هي فعل مقاومة وتحدي للظروف. وإعلان أنه ما زال بالقلب متسع لبعض الفرح. ومنزل جدتي هو أول مكان عايشت فيه ذلك المعنى وتشربته. بدأت القصة منذ سنوات بعيدة في ذلك المنزل الذي ترعرعت فيه طفلة. هناك التقطت أول طرف لخيط الطقوس المعتادة لاستقبال كل مناسبة، والتي تركت في نفسي ارتباطًا عميقًا بالمناسبات وببيت الجدة.

في رمضان لم تنقطع عادة جدي الراحل مهما تقدم عمرًا، في أن يحضر جوالاً كبيرًا مملوءًا بالتمر، لينهمك في تقسيمه لأكياس صغيرة يزنها بنفسه لتوزيعها على أولاده. كبر الأولاد وتزوجوا وفرغ البيت من أحبابه وصخبهم. لكن عادة جدي لم تنقطع. كان يصر على إحياء الطقس رغمًا عن أنف خلو البيت من أحبابه. كنت أحب دومًا مراقبته في هذه الأثناء، لأني كنت ما إن رأيت الميزان الأحمر وجوال التمر إلا وعرفت أن أيامًا جميلة قد اقتربت ويجري الاستعداد لها. سيوزع جدي التمر على أبنائه، وسيوزع في قلوبنا جميعًا محبة لشخصه لن ننساها.

في العيد لم تخلُ قط سفرة جدتي من تلك الأطباق المزركشة البهية المملوءة بقطع الحلوى. كان معناها أجمل من طعمها. الفرحة موضوعة في أطباق. هكذا كنت أشعر حينما أراها موضوعة على السفرة معلنة قدوم العيد. كانت جدتي تعد طبق الحلوى الذي يشتري جدي محتوياته. مات جدي لكن طبق الحلوى ظل يعلو السفرة في كل عيد. واظبت جدتي على إعداد طبق الحلوى رغم غياب جالب محتوياته . أخبرنا طبق الحلوى الذي وجدناه على السفرة بعد رحيل جدي رسالة جدتي بأن صاحب المنزل لم يغب سوى جسديًا فحسب.

الفن مقاومة الألم

التقطت طرف الخيط هناك من بيت جدتي الدافئ، ثم سحبته معي. أصبحت أنا الأخرى لي طقوسي في المناسبات. زينة رمضان التي لا بد وأن تُعلَّق في المنزل. ثم أكتشف سقوطها بعد أن تجعلني أتنقل كالبهلوانة على الكراسي لتعليقها. أخبر نفسي أن سقوطها قطعًا بسبب رداءة الشريط اللاصق لا بسبب عدم مهارتي في تثبيتها. تسقط الزينة فأصمم على إعادة الكرة. يعاونني أخي الأصغر فنهنأ بليلة مليئة بالابتسامات والضحك و”شد من عندك والزق على كده”. أما قرب انتهاء رمضان فيحين موعد بالونات العيد التي لا تصمد مملوءة بالهواء كثيرًا. ومن بعدها طبق المكسرات والحلوى الذي أضعه على سفرتنا أول يوم عيد.

أنظر في كل مرة لزينة رمضان والعيد المبهجة، فأدعو لجدي وجدتي بالرحمة لأنهما قد زينا قلبي بمعانٍ جميلة قبل رحيلهما. ربما لم يعرف جدي وجدتي ما زرعاه في نفسي بطقوسهما من معنى للمقاومة والصمود يعينني على مواجهة هذه الأيام. ربما لم يعرف أبدًا جيراننا في المنزل المقابل أن تلك الأضواء المبهجة تنير قلبي كلما رأيتها، وتشعرني أن العالم برغم قسوة ما يمر به ما زال به بعض الأشياء الجميلة التي بإمكاننا أن نتوقف عندها ولو للحظات. وربما قد تساعد طقوسي أهل بيتي في أن يتجدد داخلهم شيء من الأمل بأن الأيام وإن تغيرت من حولنا ما زال بها تفاصيلنا الدافئة ثابتة ومستمرة. ربما بذلك نصمد جميعًا في مواجهة الألم.

قالتها سحر الموجي يومًا: “الفن مقاومة الألم”، والطقوس ومظاهرها المبهجة ضرب من الفنون بلا شك. تجعلنا تلك الاستعدادات المبهجة الصغيرة ننتصر في مواجهة قبح العالم وقسوته. فالصمود أيضَا من أوجه الانتصار.

إذًا لنحتفي..

اقرأ أيضًا: مقاصد البهجة ضد العقل الكئيب

المقالة السابقةعالم جديد التباعد فيه حياة
المقالة القادمةمسلسلات رمضان 2020: ما كل هذا الملل والفيلر؟!

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا