بقلم/ سحر عبد القوي
لن أكتب عني بصيغة الغائب. لن أختزل نفسي أو أتوارى في الـ”ها” السردية التي نقبع خلفها، نحن النساء الكاتبات، خشية اتهامنا بأن ما جاء في النص ينطبق على واقع حياتنا. ما لكم وما لحياتي؟! لكم النص ولي أوجاعي.
تتداخل الكلمات في عقلي دافعة إياي لكتابة نص هلامي. دومًا تستوقفنى كلمة النص، فيأتي السؤال عن القالب الذي سيتمدد عليه نصي: هل سيكون قصة، أم مقالاً، أم قصيدة أم…؟
في الكتابة أصبحت أُفضِّل النصوص الحرة على طريقة رولان بارت. حيث تفقد القوالب قدرتها على تكدير لذة الكتابة. عند تَبَنّي رؤى بارت، يمكنني بكل بساطة الانسلاخ من النص بمجرد أن أقذفه على الورق.
القوالب والأنماط هي العدو الأول للإنسان الحر. كلنا نسقط في هذا الفخ اللعين بشكل أو بآخر. فالنقاد الذين يهاجمون الكٌتّاب لأن كتاباتهم انحرفت عن شكل القصة المعهود، ويوبخونهم على غياب عنصر الزمان أو المكان، والذين يُحقِّرون من شأن شاعر، يرون أن قصائده النثرية لا تتسق مع ما جاء في مٌعلّقات الجاهليين، يمارسون إرهاب التنميط على حساب الإبداع والإمتاع. مثلهم كمثل المجتمع الذي يقولب كل شيء ويقف لنا بالمرصاد.
لا أعرف لماذا يركض شيء ما في عقلي دافعًا إياي نحو تشبيه العلاقات بالنصوص ذات القوالب؟ الزواج يبدو لي كنص تقليدي. فيبدو كعمل سردي تحكمه النموذجية الشديدة. فهو نمطي تمامًا: العلاقة تتم بآليات معروفة وأشخاص لهم أسماء محددة وأدوار محددة. وله نهايات معروفة أيضًا: بالطلاق كما يحدث كثيرًا هذه الأيام، أو بموت أحد الطرفين كما حدث في زيجات أجدادنا، أو بالنهاية المفتوحة حيث العلاقة قائمة على الورق وكل طرف في وادٍ، تخدع المرأة نفسها بلقب أم الأولاد وست الدار، ويخدع الرجل نفسه بحريته في الولوج إلى علاقات متعددة يقتنص منها متعة إكمال فراغات حياته بإناث مؤقتة لهن مشاهد معدودة في فيلم حياته الطويل.
لكل شخص من شخوص هذه القصص التقليدية قصة مخفية، يمكن لكاتبة مثلي التقاطها وتحويل النص التقليدي لنص حداثي. تتداخل خيوطه وتتشابك، فأصور الحيوات المختلفة لكل طرف من أطراف العلاقة، حيث لا حبكة موحدة، ولا تيمة موحدة، ولا مزاج موحد يسيطر على النص. كل في عالم خاص به يجمعهم سقف بيت واحد وادِّعاء النجاح الأسري في وجه المجتمع الذي ينشد الكمال الظاهري.
دفتي الكتاب هنا تؤديان دور سقف البيت والشكل الرسمي للعلاقة. وما بينهما نص ميتاقصيّ لرواية مكتوبة بأكثر من وجهة نظر، لها أكثر من راوٍ وأكثر من نسخة، حيث لا تعرف من الظالم في العلاقة ومن المظلوم.
هل كل الطرق تؤدي إلى نص حداثي؟ لماذا إذًا أرفض الولوج للحداثة من باب العادات والتقاليد. فأغلبهم وأغلبهن يدخلون للعالم الخلفي الفسيح الحر للنصوص، أعنى للمتع، من باب الانصياع لسطوة العُرف والدين ودعاوى الاستقرار. فلماذا أرفض أنا هذا الطريق الممهد وأختار سبل الصعاب؟
النصوص الحرة تمارس غواية عليّ، فأحترق ذاتيًا بداخلها. أنا مؤمنة تمامًا بنظرية رولان بارت عن موت المؤلف. فهذه النصوص تكتبني ولا أكتبها. أنا أشعر بذلك تمامًا. فأنا لم أكن أنوي الآن كتابة نص عن المقارنة بين النص الحر والنص المقولَب، واستخدامهما في المقارنة بين العلاقات الحرة والعلاقات المقولبة.
العلاقات الحرة أيضًا تمارس نفس الغواية، فلا أستطيع مقاومة مغريات لعب دور الرجل الصياد الذي يتربص بفريسته، ينتقيها بعناية من بين القطيع، يضع الخطط لافتراسها، يهجم عليها ويستحوذ عليها. غير أن الفارق بين الرجل الصياد والمرأة الصيادة كبير: فالرجل يفترس ويلفظ ما تبقى من ضحيته بعدما يشبع، ويبحث عن ضحية جديدة. أما المرأة الصيادة فترعى فريستها.
أخبرتني إحداهن أنه لا فضل للمرأة الصيادة ولا سابقة نجاح، ففي كلتا الحالتين (صيادة أو فريسة) هي تُقدِّم نفسها للرجل على طبق فضي. وقالت إحداهن أيضًا إن المرأة الصيادة تكون فريسة أسهل، لأنها توفر الجهد على الرجل الذي لا يرفض غواية ولا يعرف النطق بكلمة في وجه أنثى تسكب عليه فتنتها. أحقًا لا يعرفون الـ”لا”؟! أنا أرفض فكرة أن الرجال بمجملهم رخيصون إلى هذا الحد، إلى حد تسخيف دور المرأة الصيادة.
إذًا هل الرجال مفترسون، فاعلين كانوا أو مفعولاً بهم، بينما النساء ضحايا مفعول بهن كن أو فاعلات؟
النصوص الحُرّة والعلاقات الحُرة تكمن مشكلتها في الضياع الوجودي الذي يعتريك في منتصفها.. أما في التقليدية من كلا النوعين، فيُسَيّرها مزاج ما بين “البدايات هي أجمل” و”وأنا ماشي ولا بيدي”.