بقلم: العصماء محمد هاني
“أنا محتاجة دلع”.. وقفت أمام كنتاكي التحرير متوسطة المسافة بينه وبين مدخل مترو محطة أنور السادات، صرخت بعلو صوتي في وجه صديقتي “أنا محتاجة دلع!”.
تفحصتني لتتأكد من أنه “أنا” وأنني لا أهذي ولا زلتُ أحتفظ برباطة جأشي وصحتي العقلية، فأنا الفتاة القوية، ذات الاستقلالية المعنوية والمادية، لا أحد يسألني إلى أين تذهبين، ولا أحد يسألني من أين أتيتِ، انخرطتُ في عالم الصحافة منذ العام الثاني من الدراسة، أجريت أول حوار صحفي لي مع وائل الإبراشي وأنا دون التاسعة عشرة من عمري، دائما ما نظر إليّ جميع زملائنا بنظرة حالمة وهائمة.
يغرمون بتلك الفتاة التي تتحدى عقولهم وثقافتهم وغرورهم الذكوري، وما يلبثوا أن يتراجعوا عندما لا يجدون أي بادرة أنثوية منها تدفعهم إلى معانقة قلبها بكلمة حب ولفتات رومانسية تناسب عشرينيتها البكر.
ولكنني “محتاجة دلع!”، أجل! لا زال في داخلي ذلك الجزء الهش الذي تحمله كل أنثى، أحتاج إلى من يقول لي: لا تعودي اليوم من عملك وحدك، سأقابلك عند محطة المترو، أو سأوصلك بسيارتي، سأرسل لك السائق، أحتاج إلى من ينتظرني على الغداء، لأنني حقًا وفعلا سئمت المطاعم، سئمت الأكل وحدي، إلى من يتذكر عيد ميلادي ويحتفل به، إلى من يهديني قلادة أو وشاحا من الدانتيل المزركش ذي الألوان الصارخة بدلا من الوشاح الفلسطيني الذي ملّته رقبتي.
شاءت الأقدار أن أكون فتاة مغتربة في بلدي، أعاني من تلك المأساة التي لم يحسب أهالينا لها حسابا، عندما قرروا السفر إلى دول الخليج في التسعينيات، سكنت مع أحد أقاربي لأكمل دراستي الجامعية في مصر، ومررت كما يمر كل الشباب في تلك المرحلة بالغضب والعناد والثورة، وحرصت على إبعاد الجميع عني، حتى أستمتع باستقلاليتي وشخصيتي التي بدأت في تكوينها، شخصيتي التي وصفوها بـ”التنمّر”، جعلتني أحترف الوحدة أكثر، لم يحتاجوا وقتا طويلا ليكتشفوا أنني فتاة شجاعة، لا أهاب ذلك المجتمع الجامعي الجديد، لم أصب بهول ما صدمني في الحرم الجامعي، لم أرتبك من زميلي الجالس بجانبي في المحاضرة الأولى، لم أصب بعقدة ما عندما سألني الدكتور: “المحاضرة بتدور حوالين إيه؟”، فأجبته “مكنتش مركزة”، كنت تلك المرأة الحديدية ذات الشكل الوديع التي لم يتوقع أحد أن تكون بهذه الصلابة، فلم يتوقعوا احتياجها إلى حضن ترتمي إليه، أو يد تمسك بها لتجتاز سرعة الطريق، وجدتُ نفسي فجأة وحيدة، واكتشفتُ أن لا أحد صدقني عندما أعلنت أنني أحتاج بأن أكون فتاة مدللة يخاف عليها الجميع.
في كل صباح أنتظر من يوقظني، فأتذكر أنني من فئة الفتيات القويات، أنتظر من يعد لي الفطور، فأتذكر أنني فتاة قوية، أنتظر من يستقبلني في المنزل بحفاوة، ويعد لي الغداء ويغسل لي ملابسي، فأتذكر أنني فتاة قوية، أنتظر من يقلني من جامعتي وعملي في وقت متأخر، فأتذكر أنني فتاة قوية وأن لا أحد يهتم من أي طريق تأتي ولا في أي ساعة ولا يقلق عليها وهي تستقل سيارة أجرة وحدها.. فأنا فتاة قوية!
في داخل كل أنثى كائن ضعيف جدا وهش جدا، مهما بلغت من القوة والاستقلالية، فأنا لا أجيد اختيار الملابس وحدي، وأحتاج إلى من يشعل لي الفرن ويخرج صينية البطاطس منه، لا أجيد قيادة السيارة، وأبكي إذا ما ضايقني أحد في العمل، أفضل الجلوس في المنزل وقراءة الكتب ومشاهدة الأفلام وأكل الشوكولاتة عن الانخراط في عالم الأشغال، طبيعتي الأنثوية تفضل الفساتين والأحذية ذوات الكعب العالي، أريد خلع البنطلون الجينز والكوتشي الأديداس، اللذين كنت أرتديهما حتى يلبسني ثوب القوة، ووقت ما تجد الواحدة منا حضنا ترتمي إليه ويدا تمسك بها، حتى تخلع ذلك الثوب دون خوف، وتعترف بضعفها الأنثوي وحاجتها الشديدة إلى “الدلع”… مع أن القليل من القوة لا بأس به، ولكنه ثوب ترتديه متى ما احتاج الأمر، وليس شيئا تدعيه طوال الوقت لعلّة عدم إيجاد بديلا.
لا زلت أحتاج إلى المزيد من الدلع.. حتى ينتهي الدلع وأنتهي معه.