عندما غنى النقشبندي

1335

بقلم: ياسمين غبارة

اختلط عليّ أمر، كما تختلط علينا كل يوم عشرات من الأمور بين خطأ وصواب، بين حكمة ورعونة. نقف دومًا في حيرة، وإن بدا ظاهرنا واثقًا أو حتى صامتًا، فنحن في زمن أوضح ما فيه ضبابي وأصدق ما فيه خافت. وعندما تختلط الأمور نبحث عن صوت يعيد لأنفسنا اتزانًا وهدوءًا، ووقع اختياري على صوت النقشبندي.. ذلك الصوت القريب، الأصيل والحقيقي، اخترت ابتهال “مولاي” لأسمعه، ذلك الابتهال النافذ إلى أقصى مكان في الروح، ليوقظ أصدق وأعمق ما أودعه الله في الإنسان.

عندما قال بليغ حمدي للنقشبندي “هعملك أغنية تعيش 100 سنة” قلل من قدرها، فهي ستعيش أكثر من ذلك بالتأكيد. فهذه الأغنية أو الابتهال أو الإلقاء أيًّا ما كانت تكون هي نتاج عمل مخلص، عمل يختلط فيه الجهد والإتقان بالاستمتاع، فأمتعنا جميعًا.

تردد النقشبندي كثيرًا قبل أن يوافق على أداء تلك الابتهالات؛ لم يكن يعلم تحت أي إطار قد تدخل تلك التجربة، تحت إطار الفن، الطرب، الغناء، العمل الطيب، التأثير في قلوب الناس، أم أنها مجرد تجربة سيندم عليها؟ إلا أن بليغ حمدي كان لديه قدر كبير من الذكاء الفني والإنساني، فتعامل مع صوت وشخص النقشبندي بشكل جعله مرتاحًا للفكرة، منطلقًا في الأداء، سعيدًا بالنتيجة.

العمل المخلص

أعشق قيمة العمل أمام هذه النماذج، التي إذا طابقناها على الحياة اليومية سنجد ما يطابقها الكثير، فكل لمحة بها عمل مخلص تبعث في الروح أملاً وحياة. كل عمل وأي عمل يقوم به صاحبه بشكل جيد ونية طيبة هو طاقة أمل لكل من يراه، ولكن ما هو العمل في هذا العصر؟ وما الذي يجعل للعمل قيمة؟ هل اختلاف مفهوم العمل عن السابق هو ما خلق في ذهني هذه الحيرة؟ هل فكرة البحث عن الضوء، عن استحسان الآخرين هي ما أضافت على العمل صبغة غير صبغة الكفاءة والمنفعة؟ فالفلاح لا يبحث عن شهرة ولا عن يدٍ تصفق له لأنه أجاد الزراعة، إنما هو ببساطه يقوم بعمله، والذي يميزه هو مدى إتقانه لهذا العمل. هذا ما يجيد فعله وهذا مكانه في صرح الدنيا.

والدكتور من المفترض أن يعالج المريض وأن يطلع على كل جديد فى تخصصه، ليظل قادرًا على أن يقدم عمله بشكل يُواكب الواقع، ليس مطلوبًا منه عمل حملة دعائية عن نفسه، ويضع صورته على إعلان ضخم في وسط البلدة، بل مطلوب منه فقط أن يقوم بعمله، تلك الخدمة التي تعلمها وأجادها ويقدمها، فتنفع الناس ويشعر بالإنجاز والتحقق من خلال كل مريض يساهم في تخفيف ألمه.

اختبار الحياة

إذًا ليس العمل ما يحيّرني، وإنما فكرة التسويق المستمر للذات، والانغماس في إظهارها وانتظار ثناء الناس عليها، فلماذا نلهث وراء رسم صورة لأنفسنا في أعين الآخرين، من خلال التميز في أي شيء في شكل أو عمل أو حتى أداء وطريقة كلام؟! نحاول أن نصل ونؤثر ويتحدث عنا أكبر قدر ممكن من الناس، وكل ذلك قد يتم ربطه بالعمل، وأحيانًا يكون هو العمل نفسه! مما جعل كل شيء ملتبسًا.

فإذا كنا خُلقنا لننجح في اختبار الحياة، فما هو الاختبار حقًا؟! هل هو من يصل للآخرين أكثر؟ إذًا فليلتهم الإحباط تلك الفتاة التي وجدت دورها في الحياة هو أن تعتني بأمها المريضة، ولييأس ذلك الشاب الذي يعمل في بناء المنشآت ولا يعلم عنه أحد شيئًا. لماذا يجب أن نكون كلنا مميزين ورائعين؟! لماذا لم يعد هناك مكان للشخص العادي البسيط الذي هو بلا شك بطل في يومه بشكلٍ ما؟! فيا حياة كوني بسيطة كبساطة قول الشاعر “عبد الفتاح مصطفى”  في ختام ابتهال “مولاي”:

كلُّ الخلائقِ ظِلٌّ في يدِ الصمدِ

اقرأ أيضًا: خطورة إدمان العمل على الاستمتاع بحياتك

المقالة السابقةروايات تحولت إلى أعمال فنية: الصراع بين الأدب والتمثيل
المقالة القادمةطعام يحسن المزاج: 12 نوعًا صحيًا يشعرك بالسعادة
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا