بقلم/ سلمى شعبان
زادت في الفترة الأخيرة موجة السفر من مصر إلى الخارج، لدرجة أصبح معها السفر للخارج حلمًا من أحلام العديد والعديد من الشباب وحتى غير الشباب. وأصبحت أقرأ حتى في منشورات طلابي رغبتهم الشديدة في السفر والخروج من البلد، هؤلاء الصغار الذين لم تتخط أعمارهم عشرين عامًا، على الرغم من علمي التام بالأسباب الكامنة وراء تلك الرغبة لديهم ولدى الكثير من الأصدقاء والمعارف، فقررت أن أتحدث لهم هنا من قلب الحدث، لأخبرهم أن الغربة مرة مهما تخيلوا عكس ذلك.
نعم.. الغربة مرة، مُرة إلى الحد الذي يجعلك تؤجل كل سعادتك وأحلامك لتلك الأيام البسيطة التي تقضيها بين عائلتك وأصدقائك، وبها تختصر الكثير والكثير من سنوات عمرك في بلد ما مع أشخاص ما، لتكون كل حياتك مؤجلة ومؤقتة. فكل مغترب مهما طال به الزمن أو قصر في بلاد الغربة يعيش حياة مؤقتة. هي ليست مؤقتة بالمعنى الحقيقي، لكنه يتمناها كذلك ليعيش بتلك الأفكار المضللة طيلة الأيام التي يقضيها في تلك البلاد. فالمغترب لا يجمع المال فقط، ولا يؤسس حياته من أجل أطفاله لتكون حياة كريمة وما شابه، بل هو يعيش ليزهد كل التفاصيل المبهجة في حياته لأنها ليست مع أحبابه. يترك المغترب بلده وهو لا يدري من ودع في تلك الإجازة ولن يراه في إجازته القادمة. يخرج وهو لا يعلم كم من المواقف السعيدة والحزينة ستمر دون وجوده وكم من الصور ستلتقط دون أن يكون هو جزءًا منها.
الغربة من أجل المال مؤلمة، ليس لأن المال لا يشتري السعادة وكل تلك الكلمات الرنانة، ولكن لأنه ليس بالمال وحده يعيش الإنسان: نعم! يخرج المغترب من بلده طامعًا في المزيد من المال ليعيش حياة سعيدة، أو كما يظنها هو ستكون، ليجد نفسه يتنازل عن الكثير من الأشياء التي كان ينعم بها فيما سبق. فالإجازة مرهونة بعدد أشهر محدد لا يستطيع الخروج من البلد إلا بعد أن ينتهي، فإذا ما صادفت شهور عمله في السنة وقت زواج أو مرض أو حتى وفاة أقرب الأقربين، قد لا يتمكن من الحضور. وإذا حالفه الحظ واستطاع أن يحصل على إذن بالسفر فهو مرهون أيضًا بالعديد والعديد من الشروط والجزاءات.
علمتني الغربة أن الصعاب مهما زادت أو طالت ستنتهي، فهناك دائمًا الأمل في اقتراب موعد الإجازة، وانفراج الأزمة ولو حتى لبضع أيام، فذلك أهون كثيرًا. في الغربة تنكشف لك طبائع البشر الحقيقية دون ذلك الزيف الذي تراه فيهم، ففي الغربة يتلون الناس كل حسب مصلحته وكل من أجل الإبقاء على لقمة العيش مع صاحب العمل، فإذا ما كان زميلي هذا أو صديقي ذاك على استعداد أن ينال مني ومن منصبي فلا وألف لا، و”عليَّ وعلى أعدائي”، في الغربة تسقط كل الأقنعة ولا يتبقى سوى الأوفياء.
علمتني الغربة أن البشر لا يتساوون مهما حاولنا خداع أنفسنا بذلك: نحن مختلفون، والقلوب المحملة بالطيبة والنوايا الحسنة هي فقط التي تستطيع أن تحتفظ بتلك الطيبة وأن تستمر دون أن تلوثها أمور المادة ودون أن تتلون بمقدار ما جمعته من أموال. رأيت في الغربة من تخلّى عن صلاته وعقيدته واتجه للتجارة غير المشروعة لتتغير حياته وحاله، فقط لأنه كان يلهث خلف الأموال الكثيرة ناسيًا أن المال وبركته أهم من أي شيء. ورأيت في الغربة من يتخلى عن زوجته التي عاشت معه على الحلوة والمرة ليتزوج الشابة المرحة الأنيقة مخلفًا وراءه الأبناء وسنوات العِشرة الطيبة. رأيت الكثير والكثير ممن فقدوا أزواجهم في حوادث السير لتكون نهاية ذلك الشاب المغترب إعلانًا على إحدى صفحات الجالية المصرية، برجاء الدعاء له بالرحمة فهو الآن يُسأل. ورأيت من فُقِد في أحداث طبيعية كأمطار وخلافه ولا زال لا يعلم عنه أهله إذا ما كان حيًا أم فارق الحياة. ورأيت من وقع فريسة للمرض النفسي بسبب ضغوط الغربة وألم الفراق، ليسلك في حياته مسلكًا آخر لا زلت أراه أشد الدروب ضراوة في هذه الدنيا، وهو الألم النفسي. ورأيت الكثير والكثير من النساء اللاتي ولدن أبناءهن في الغربة وعانين بمفردهن وصمدن حتى وصلن لمرحلة بات معها أي ألم وأي صدمة في الحياة مقبولة ومتوقعة.
علمتني الغربة أن الأموال مهمها كثرت لا تحمل معها قيمة الإنسان مهما حاول هو خداع نفسه بذلك، ومهما تزين بالماركات العالمية، فقيمته الحقيقية تكمن في ذلك القلب والعقل القابعين وراء كل هذه الألوان والستائر الملونة التي يستتر خلفها.
علمتني الغربة أن كل الأعذار مهما صغرت متاحة، وأن قبول الآخر كما هو أعلى مراحل النضج الإنساني، وعليَّ قبل أن أقبل الآخرين أن أقبل نفسي بزلاتها وضعفها ومواطن قوتها. علمتني الغربة أن نفس التجربة إذا ما تكررت بنفس أحداث الخذلان قد يكون الدرس المستفاد مختلفًا ومتفردًا.
علمتني الغربة أن الغربة مع من نحب أهون وأمتع، وأن المثل القائل “اختار الرفيق قبل الطريق” حقيقي ومن قلب التجربة. فالأحبة يخلقون عالمًا يشبه عالمنا الذي خلفناه في بلدنا.
علمتني الغربة أن ” الجواب مبيبانش من عنوانه”، وأن الدرس المستفاد سيكون حتمًا في نهاية الرحلة. علمتني الغربة أنه لا يوجد أغلى من كلمة “الوطن” بكل ما تحمله من معنى، مهما كان ذلك الوطن طاردًا لك ولأحلامك.
من قلب الحدث