بقلم: آية حمدي
الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل، القمر بدر في السماء، ورغم تميزه بضوئه فإنني لا أستطيع أن أرى ذلك الضوء سوى نداء استغاثة ليشاركه أحدهم في وحدته. لذلك قررت اليوم أن أشاطره الوحدة وأحدثه عن أمنيتي في الجلوس بجواره، وعن السعادة التي ستدب أرجائي حينما أنضم إليه في السماء.
أتعلم أيها القمر أنني وحيد بقدر وحدتك، ربما لست مضيئًا ولا أملك شمسًا كي تنير ظلامي، في الحقيقة لا أملك أي شيء، حتى هذا الجسد أكاد أشك يوميًا أنه ليس لي. لا أملك سوى حزن يلتصق بي حتى كدت أظن أنني الحزن نفسه متجسدًا، لكن لا عليك، لا تقلق كل شيء سيكون يومًا ما على ما يرام.. هذا ما يقوله الجميع دائمًا.
أنظر إلى عيني الممتلئة بالغيوم في المرآة، التي تحتل الركن الغربي من الغرفة، بيأس شديد، أُلقي عليها التحية وأبتسم، أخلع رداء الواقع لأرتدي رداء واقعي أنا. أنظر للمرآة مرة أخرى وأتساءل: من أنا؟!
من أنا؟! لم أعرف يومًا من أنا! لم أصل يومًا للجواب المناسب للرد على سؤال كهذا.
منذ اللحظة التي ولدت فيها وأنا أعلم أني لا أنتمي إلى هنا، كل يوم جديد كان بمثابة رحلة استكشافية داخل روحي وداخل هذا العالم الذي يسكنه جسدي، كل يوم كان يصرخ في أذني صداه بأن العالم خارج غرفتي لا يُحتمل ولا يُؤتمن على قلب وحيد كقلبي، يبحث عن الطمأنينة في كل ركن وفي كل زاوية.
هل أنا كائن فضائي مُحتل من قبل هذه الأرض وهذا الجسد أم كائن بشري مختل؟ العديد من التفسيرات الطبية ترجح الاحتمال الثاني، غير ذلك، أنا لم أجد سوى الاحتمال الثاني جوابًا في أعين العديدين من حولي.
هناك أسطورة تقول: “إن الأمنيات تتحقق إذا تحدثت بها إلى القمر وهو بدر” رغم ذلك ستظل الأسطورة أسطورة.
حينما كنت أملك من العمر ثماني سنوات كنت أظن أن بإمكاني الحصول على أمنيتي بمجرد فقط أن أتمناها داخل رأسي، ولكن كل ما كان ينقصني لفعل ذلك هو اليقين بأنني أستحق ذلك الشيء الذي أتمناه.
عانيت من طفولة صعبة، لهذا بمرور الأيام كان يقف أمامي شبح الدونية، كلما ازداد حجمي وعمري ازداد حجم ذلك الشبح أضعافًا، حتى حجب الرؤية تمامًا عني، وأصبحت ذلك الشخص الذي يرى لكنه في حقيقة الأمر لا يرى، كانت الريح تأخذ أمنياتي وتضعها في المكان الذي ترتئيه مناسبًا لها، حيث كنت أظن الأمنية تخرج من فمي كي تولد، ولم أكن أعلم أنها تخرج وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، فتأخذها الريح وهي تودعني إلى مقبرة الأمنيات.
لا أعلم إن كان هناك شيء في هذه الحياة يُدعى مقبرة الأمنيات أم خيالي فقط هو من اختلق الأمر، ولكن أنا أستطيع أن أؤكد للجميع أن أمنياتي ترقد هناك.
ثمة زهور من البنفسج داخل إصيص أمام النافذة التي أنظر من خلالها إلى القمر، أعتني بها كأنها طفلتي، كأنها جزء من روحي، كأنها أنا. يقال قديمًا “إن الزهور لم تكن إلا صبايا قتلهن الحب”، أنا أيضًا ذات يوم قتلني الحب، لكن لسوء الحظ لم أتحول إلى زهرة، أنا فقط وببطء شديد تحولت إلى ظلام.
أسقي زهور البنفسج وأنا أداعب أوراقها، أخبرها كم أنا سعيد لامتلاكها، أتجه نحو سريري، ألقي بجسدي عليه، أشعر بهدوء الليل يسري داخلي، أشيح بنظري نحو النافذة وأُحدث القمر “عمت مساء يا رفيقي”.
ولم يستغرق الأمر سوى غمضة عين حتى أغط في نوم عميق.
الساعة الثالثة فجرًا “آه”، من السخيف الذي قام بضبط المبنه ليوقظني رنينه في مثل هذا الوقت؟! أحاول إطفاء المنبه كي أعود إلى النوم، ولكن فجأة من العدم أتذكر أن ذلك السخيف كان أنا، وقمت بضبطه كي ألقي بتلك الحبوب التي أصر الطبيب عليها داخل معدتي.
ما فائدة الطبيب على أي حال؟! ما فائدة الحرب دون وجود الدافع؟! من يذهب للطبيب يذهب لأنه يملك شيئًا في الحياة يريد أن يعيش لأجله، أما أنا فلا.
آه يزعجني التفكير في هذا الأمر، ربما عليَّ أخذ تلك الحبوب في صمت.
هناك طرق خفيف على الباب، أتجاهلة عمدًا في المرة الأولى لخفته. أتثاءب بشدة، فالنوم يناديني مرة أخرى، ولا أستطيع فعل شيء سوى أن ألبي النداء.
أؤمن أن النوم ما هو إلا بوابة للعبور إلى عالم آخر، وكل شخص بداخله المفتاح الذي يسهل عليه العبور منها إلى عالمه الحقيقي، إن عثر عليه عثر على عالمه وعادت إليه نفسه التي ضل عنها وضلت عنه. ذات يوم أخبرت صديقي بذلك، لكنه ظل يضحك ساخرًا مني ونعتني بالمغفل ذي الأسلاك الملتوية داخل رأسه، لكن لا بأس، ليس على الجميع أن يؤمن بما أؤمن به. المؤلم ليس ما قاله عني، بل يؤلمني أنني رغم إيماني الشديد بذلك فإنني لم أعثر على ذلك المفتاح بعد.
طرق على الباب مرة أخرى، ولكن هذه المرة كان ثقيلاً، حيث هرب النوم من عيني فزعًا، وبدأ القلق يستعد لرحلته داخل جسدي. من الطارق يا تُرى؟! أتساءل في فضول.
أتنفس بعمق، شهيق من الأنف وزفير من الفم، أتبع هذا التكنيك كي أتمالك أعصابي قبل أن يثيرها الخوف.
أفتح الباب لأتلقى صفعة من الدهشة، لا يوجد أحد!
أسير بخطوات بطيئة نحو الخارج، لأتأكد من عدم وجود أحد. لا أرى أحدًا لا أرى أي قط حتى يتجول في الأرجاء، أتراجع لأعود إلى حيث كنت وأنا أتمتم في غضب: “أي نوع من الأوهام هذا الذي يكون الطرق فيه حقيقيًا هكذا؟!”.
أعلم أن الأشياء تهاجمنا خلسة من الخلف، لذلك كنت أسير نحو الباب متوجسًا، لكن فجأة وبدون سابق إنذار التف حول جسدي بريق أبيض في دوائر حلزونية، انتشلني من فوق الأرض صاعدًا بي نحو السماء. أرتجف، أغمض عيني وأفركها، ظنًا مني أنني أتوهم لكن دون فائدة، البريق يرتفع بي، وكلما ارتفع أكثر اختفى جزء من جسدي معه، كأن البريق يلتهمني داخله شيئًا فشيئًا حتى اختفى جسدي تمامًا. استقر بي البريق في تلك السماء التي أراقبها من النافذة بجوار القمر. للوهلة الأولى اعتقدت الأمر برمته حلمًا وكانت كل محاولاتي للاستيقاظ تبوء بالفشل، الأمر مذهل أن تتحول إلى نجم مضيء وساطع بجوار القمر، أن تضيء السماء انطفاءك.
للمرة الأولى لا أشعر بالغرابة، وللمرة الأولى يملؤني شعور الانتماء، واليوم.. اليوم فقط عرفت أنني كذاك النجم الذي تعثر يومًا ما، فسقط من السماء إلى عالم يعادي النجوم.
الساعة الثالثة فجرًا، تركض فتاة في منتصف العشرينيات يبدو على مظهرها أنها تعمل بطاقم التمريض داخل مستشفى ما، تنادي الطبيب لتخبره وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة “لقد توقف نبض المريض في الغرفة 107″، نهض الطبيب مسرعًا ليتأكد من الأمر، وبعد عدة دقائق دوى صوته وسط حالة من السكون “توفي المريض في تمام الساعة الثالثة فجرًا حيث دخل المشفى إثر غيبوبة منذ عدة أيام، نتيجة تناوله لجرعة زائدة من المسكنات”.
اقرأ أيضًا: ما يفوق الوصف والاحتمال
I like what you guys are up also. Such intelligent work and reporting! Carry on the excellent works guys I have incorporated you guys to my blogroll. I think it will improve the value of my site 🙂