بقلم/ سلوان سيف
1- المشهد الأول
كنت صغيرة إلى حد ما وقتها، وقت أن فتحت أحد أدراج المكتب أبحث عن شيء ما، فوقعت في يدي رسالة لأختي أرسلتها لها صديقتها التي كانت أقرب الناس إليها وقتها.
وقعت عيني على جملة دفعتني لقراءة الرسالة كاملة، كانت تقول لها “أفزعتني رسالتك وأخافتني عليكِ، كم شعرت بالذنب لأن هذا تأثير كلماتي!”.
كانت رسالة رائعة، تعرض فيها ما قالته لها أختي في رسالتها وترد عليه بما شابهه في حياتها وكيف تحاول الخروج منه.
كانت تأخذ بيد أختي إلى البر، تحاول أن تنجو معها وبها.
أعدت الرسالة مكانها وأنا أتساءل: هل استطاعت النجاة؟ هل استطاعت كل منهما أن تكون عصا سحرية للأخرى؟
**********
2- المشهد الثاني
سألتني صديقتي بجمود كيف ستشعر حين موت أبيها أو أمها؟ إنها لا تشعر تجاههما بأي عاطفة، تشعر أنهما يضطهدانها وأساءا إليها نفسيًا ببخلهما الشديد تجاه أشياء تراها هي ضرورية لحياتها، قالت إنها تخشى ألا تستطيع حتى البكاء وقتها.
لم أستطع الرد، لكني نصحتها بالذهاب لطبيب نفسي، ورجعت إلى نفسي أسألها نفس السؤال: كيف ستكون حالي حين يضرب الموت أسرتنا؟ ولم أستطع أيضًا الرد.
فرقتنا الحياة ولم أعلم كيف فعلت عند موت والديها، لكني عرفت كيف فعلت أنا حين ضرب الموت أسرتنا وأخذ أبي. لم تكن صدمتي من الموت، كانت صدمتي من الأمل. كنت متشبثة بالأمل في نجاته من مرضه وليكن بعدها أي شيء.. أي شيء.
عرفت وقتها أن ما تبنيه من الأمل لأوقات طوال يستطيع أن يضربه القدر في لحظة.
فقدت ثقتي في كل شيء وقررت أني أحتاج الآن للطبيب النفسي.
في اليوم المقرر أن أفعل فيه ذلك لم أذهب.. لم أخرج من المنزل. سألت نفسي بهدوء: ماذا سيفعل الطبيب النفسي؟ إنه لن يعيد أبي. يمكنه أن يعيد إليّ الأمل ربما، لكنه لن يستطع منع القدر من ضربه مرة أخرى.
وقررت وقتها أن الطبيب النفسي ليس هو العصا السحرية التي أبحث عنها.
**********
3- المشهد الثالث
قصة حب قوية جدًا، فاشلة جدًا.
إنها قصتي.. قصتي التي لا تكتمل، ولا تنتهي، أصارع من أجل أن أنهيها، وأصارع لأجل ألا أنهيها.
ربما يمكنني وصفها بأنها مدمِّرة، أنهت من عمري سنوات وأنا فقط ألفّ في مدارها، في صفعة قوية من صفعات هذه القصة ارتجّت الأرض تحت قدميّ بالفعل، توقفت عن كل شيء، وقررت فجأة أنه الآن سأذهب للطبيب النفسي، قررت أني أحتاج للمساعدة.
وهناك، في عيادة الطبيب كانت مفاجأتي في نفسي.. أنا أحكي بصعوبة، بغير ترتيب، أبكي أكثر مما أتكلم، أشعر بالحرج؛ يهوّن الطبيب عليّ بأنه لا داعي للحرج، فهنا المكان الذي يجب أن أكون فيه هكذا، أبكي وأسترسل وأهدأ دون ترتيب.
في الجلسة الثانية قررت أنني لن أستكمل؛ شيء ما ليس على ما يرام، شيء ما لا أعرفه يمنعني من الاستكمال.
**********
4- المشهد الرابع
غريب عني، لا أعرفه، ولا يعرفني أيضًا، نعرف عن بعضينا فقط أسماءنا، وربما رآني أناقش أمرًا ما أو عدة أمور مرة أو مرتين، ربما ثلاث، لكن أبدًا لم يدُر بيننا حديث.
جاءني سائلاً: كيف حالك؟ كيف حال الألم؟
ولما تراجعت مندهشة قال: “نحن الغريبان، نلتقي فلا نتبادل التحية لكن أرواحنا قد خبرت بعضها بالألم”، أليست هذه جملتك؟ أنا أطلب منكِ الآن أن نتبادل التحية، أنا أحد هؤلاء الغرباء، أحتاج -وربما تحتاجين- أن نتبادل الفضفضة، هكذا دون معرفة، دون احتياطات ولا ترتيبات.
في أول حديث لنا علّق على جملة قلتها تعني أني أشعر بالازدواجية في شخصيتي فقال: نصحني أحدهم مرة وكان طبيبًا نفسيًا ألا أقول ذلك أبدًا، فأنا شخص واحد ولا وجود لآخرين.
سألته: كان صديقك أم طبيبك؟
ارتبك من السؤال كأني أزلت عنه السِتر. ربما خشيَ أن يصارحني بأنه ذهب إلى الطبيب. تساءلت بيني وبين نفسي: هل توقف عن الذهاب إليه مثلي؟ هل شعر هو أيضًا أن الطبيب ليس عصاته السحرية؟
لخمسة أيام متتالية فعلنا ذلك، تبادلنا الشكوى والحزن والسعادة، دون خوف ودون أقنعة، ثم قرر أنه انتهى مما كان يرغب في إلقائه بين يدي غريب.. وانتهينا.
لا أدري كنت أفضل حالاً قبل هذا الحدث الصغير أم بعده؟ لا أدري كنت أحتاج فعلاً لغريب أشكو إليه ويشكو إليّ أم أن الأمر أثار ضيقي أني ألقيت أحزاني لأحد فأخذها ورحل؟
**********
الآن أقرّ لنفسي أني مريضة بنوع ما من الاكتئاب، أقرّ لنفسي أني بحاجة إلى الطبيب، وأجدد قراري كل يوم بأني لن أذهب.
أراود نفسي عن ألمي كل لحظة.. يطحنني الصراع بين عقلي وعقلي؛ حتى عقلي ينقسم عليّ.
أنا لا أحتاج لطبيب بالمعنى المفهوم.. أحتاج طبيبًا يثق بي كما سأثق به، أحتاج أن يخبرني عن ألمه كما سأفعل.
لا أدري كيف أفكر هكذا! وربما كان هذا ينطوي على عدم اقتناع بأني مريضة وهو طبيب! لكن هذا ما يحدث في رأسي.
أنا أحتاج لتلك العصا السحرية التي لا أمّل البحث عنها.
العصا التي تغنيني عن تلك الجملة التي قرأتها في رسالة صديقة أختي “كم أشعر بالذنب لأن هذا تأثير كلماتي”. قلوب صديقاتي من ذهب، وعلى استعداد لأن يسمعنني طوال الوقت، لكنني أشعر إذا تحدثت أني أُخرج من صدري حممًا بركانية تصيبهم في مقتل، أشفق عليهن من شعورهن بالعجز أمام كلماتي المؤذية.
أريد تلك العصا السحرية التي تسمح لي أن أحكي أحزاني لغريب، سواء كان طبيبًا أو عابر سبيل فيأخذها ويرحل دون أن أجزع لذلك.
أريد أن يكف رأسي عن التفكير، عن توقع النتائج، عن الأسئلة التي لا أجوبة لها.
أريد أن أعترف بمرضي أكثر، ولا أقاوم العلاج.
أريد راحة قد يمنحني إياها العلاج النفسي، لكني لا أريد أن أشعر أن ألمي هزمني فاستسلمت وذهبت للطبيب.