بقلم/ نسمة الجرحي
هكذا فتحت سراديب الماضي حين جاء دوري في إحدى جلسات النميمة والفضفضة مع صديقات العمل الجدد، حين كنّ يبحثن عن إجابة لسؤال طالما شغل فكرهن.. هل ثمة حب حقيقي حقًا؟!
منحني الأول وهج البدايات بالمذاقات الأولى للأشياء، ولكن سرعان ما تبدد ذاك الوهج بخلافات لم تستطع الصمود في وجه الاختلافات. حتمًا لا تُبنى العلاقات على التطابق المطلق، ولكن هل ثمة حب في علاقة لا تبصر سوى العيوب؟ يخبروننا دومًا مرآة الحب عمياء، فلا يجب أن نصدقهم، فمرآة الحب ترى ولكنها تعكس الصورة الكلية للأشياء، والمحب الحق يبصر عيوب محبوبه، ولكن بحجمها الطبيعي فلا يضخمها بعدسةٍ محدبة.
أخبرني دومًا بأن السبيل لعلاقة ناجحة العطاء غير المشروط -وقد كان له- وطالبته دومًا بقبول غير مشروط ليستقيم الحب، ولكنه نهر دنياي وأعلن رايات العصيان.. فارتحل وترك ضحيته خلفه وانتهينا.
ردد المقربون على مسامعي مؤازرةً، “ثمة حكمة إلهية تدخرها لكِ الأيام” ونصحوني بالصبر للتعافي، ومرت الأيام ولم تمنحني الحكمة أو النسيان، ولكن لربما منحتني شيئًا أثمن حينها “الإنصاف”! هل أحببته حقًا؟ لا أعترف، إنني لم أحبه ولم يكن عطائي خالصًا لوجه الحب، ولم تكن حاجتي سوى لحالة الحب لا للحب نفسه أو لحبيب،
فما كان سوى فائض مشاعر تأججت بداخلي وآن أوانها لإطلاق صراحها.
أما عن الثاني، فكان محبًا بمرتبة عاشق، صادق في حبه حد التضيحة،
منحني الحب دون شروط حين نضب نهر حبي، ووهبني القبول دون قيود، فبث الروح والثقة في أنوثتي الموؤدة إثر جروحٍ قاتلة لحبي الأول.
أراد أن يرمم ما حطمه سابقه، ولكنه نسي أن القلوب المتصدعة لا بد لها من ترميم شروخها قبل أن تستوطنها. وجدني أصارع أمواج الجُرح والغرق في طوفانٍ من الأحزان، فانتشلني وارتحلت إلى جسره الآمن، ولكنني غفلت كون الجسور المعلقة الواصلة بين شطآن الحب لا نطيل الوقوف عليها، وإن كانت مرفئًا آمنًا من أمواج كادت تفتك بنا، فارتحلت عنه إلى الضفة الأخرى.. وانتهينا.
غادرت جسره إلى ضفة رجلي الثالث، الآن لربما استعدت عافيتي العاطفية، أريد الحب للحب لا لحاجته، وأريد العطاء المزدوج اتجاهاته، وعلاقة يحكمها الشغف. كان رجلاً يجيد مراوغة العقول شغفًا كما يجيد منازلة القلوب غزلاً، كل حديث أو لقاء معه مشتعل بالحب والإبهار وكأنه الأول، علاقة تشبه الأساطير أليس كذلك؟!
علاقة كتلك لا بد أن نتشبث بخيوطها جيدًا، ولكنه أرخى الخيط رويدًا حتى انفلت تمامًا مع أول وطأة قدم على عثرات الظروف.. الظروف! كم نبدو أكثر درامتيكية في مواجهة نهاياتٍ كتلك، ولربما ننصب حبيبًا عاجزًا كإله للحب.
ولكننا نغفل أن لعملة الحب الحقيقي وجهين لا ثالث لهما، الثقة والأمان، فخُلِق الحب لنضحي من أجله لا لنضحي به، فمن أين لي بأمان في علاقة تحطمت مع أول صخرة للصعاب؟ وكيف أثق في مشاعر دومًا كانت بمنأى عن الأفعال؟ جل ما أدخر لي في جعبته لم يتجاوز الكلمات والوعود المزكرشة بالأمل الكاذب. عند الآمال الكاذبة لجم الخذلان ألسنتنا وافترش الصمت مجلسنا إلى أن قطعت إحداهن الصمت لتسألني في حيرة “أخبرتِنا أنه لم يمنحك أحدهم الحب.. ولكن ماذا تحتاجين في الحب أكثر مما منحه لكِ رجلك الثاني؟!”.
بعد ابتسامة باهتة جاوبت: الحب يا عزيزتي علاقة ثنائية لا تقبل التقسيم، وعطاء متبادل يرعى الحب ويولِّد الشغف والأمان والسكينة، والعطاء كان منه وباتجاهي فقط، فلقد نفذ عطائي وذبلت مشاعري، لربما كان قلبًا مناسبًا أتاني في وقت لم أكن صالحة للحب، فكانت بدايات شعور من طرفٍ واحد لم ترقَ لتكون حبًا.
لمَ؟ متى؟ ماذا؟ من؟ ساد الصمت من جديد ودوت بداخلي تلك الكلمات التي لم يكف بحثي عن إجابات لها منذ أن أخبرنا بها معلمي في الصف الثالث الإعدادي، حين أصرت إحدى الطالبات بفضول المراهقات أن يحدثنا عن الحب. لم يكن لينهر فضولنا كآخرين، ولكنه ابتسم في هدوء معهود وأخبرنا أن الحب نبتة الله في قلوبنا، هبة واجب علينا شكره عليها برعاية نبتته، لا بأن نلونها بالذبول، واستطرد ليختم حديثه ذاك اليوم البعيد “إذا زاركم الحب توقفوا للحظات وتساءلوا: لمَ نحب؟ ومتى نكون مستعدين للحب؟ وماذا سنقدم للحب ولذاك الحبيب؟ ومن الأجدر بحبنا؟”
رحم الله معلمي إن كان ميتًا وبارك الله في عمر حكمته إن كان على قيد الحياة.