أن تكون حازم دياب

970

 

بقلم/ علياء أبو شهبة

 

يقولون إن الكتابة تساعد على تجاوز مرارة الفقد، لكن في بعض الأحيان يكون الحزن أكبر من القدرة على الكتابة، رغم ذلك استمعت لنصيحة صديقتي الجميلة “شيماء سيد” التي نصحتني بالكتابة، ربما تفلح في وقف سريان دموعي الذي لم أعد أمتلك التحكم فيه بخلاف عادتي.

 

مع اللحظات الأولى لوفاة صديقي العزيز “حازم دياب” تجنبت القراءة والكتابة، قراءة عبارات الرثاء التي سرعان ما كتبها وتناقلها العشرات، وربما المئات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأغلقت حسابي، لم أملك قدرة على الكتابة والتعبير عن حزني، كما أن عبارات الرثاء كانت تزيد من ألمي، كنت بفعل الصدمة وما زلت أشعر بصعوبة تقبل الأمر، ليس اعتراضًا -بالطبع- على قضاء الله وقدره، ولكن بفعل الحزن.

 

“حازم” -لمن لا يعرف- صحفي وكاتب شاب، عمل في مجال الإعداد لأكثر من برنامج تليفزيوني وإذاعي، منها برنامج “ممكن” مع الإعلامي خيري رمضان، كما أنه أديب تمتع بموهبة استثنائية، لم ينشر سوى مجموعته القصصية “أم عويس”، وتوفي قبل أن ينشر مجموعته الثانية وقبل أن يرى فيلمه “عيد” النور.

 

تعرفت إلى “حازم” عام 2012، تشاركنا العمل في موقع إلكتروني لإحدى الصحف. كانت تجربة قاسية بالنسبة لي، كرهتها بشدة، ولكن المفارقة كانت في اكتسابي لصداقات ومعارف أعتز بهم حتى الآن، كان أولهم “حازم”، لفرط أدبه وخلقه الرفيع، فضلاً عن خفة دمه وتلقائيته وموهبته الصحفية، والتي كنت أراها أدبية في المقام الأول ويجب أن تحفظ في كتب تضمن لها الخلود أكثر من روابط المواقع الإلكترونية.

 

بقدر تحفظي في بداية عملي وحرصي قبل تكوين صداقات، شعرت للوهلة الأولى أنني أتحدث مع أخي، كنت حينها في نهاية العشرينيات من عمري، وكان “حازم” في مطلع العشرينيات، لكن حبه الشديد للقراءة أكسبه حكمة ربما لا يتمتع بها شيوخ كبار، ربما هي نفحات أديبه المفضل نجيب محفوظ، الذي كاد أن يطير من السعادة يوم شرائه لكتاب يحمل توقيع نجيب محفوظ.

 

سرعان ما استقال “حازم” من عملنا المشترك البغيض، وعاد مرة أخرى في قسم آخر، لأترك أنا العمل. تواصلنا في البداية وحرصنا على اللقاء مع باقي أصدقائنا، لكن زحمة الحياة وضغوط مهنة الصحافة لم ترحمنا، وزاد انشغال “حازم” بعد عمله في قناة تليفزيونية، وترك العمل في الموقع للمرة الثانية، وحرص على دعوتي لحفل زفافه على “هبة” صديقته السابقة ثم حبيبته وزوجته، والتي كنت أشعر بأن صداقتهما ليست سوى حب، وهو ما لم ينكره “حازم”. لم أتمكن من حضور الزفاف في الإسكندرية، وانقطع تواصلي مع “حازم”، كان شخصًا يكره بشدة الرد على الاتصالات والرسائل، حتى أنني غضبت منه لفترة ثم أدركت طبيعته وتقبلتها، هكذا حال الأصدقاء يتقبلون خصال أصدقائهم كما هي.

 

في عام 2015 تلقيت دعوة لحضور مؤتمر أريج السنوي للصحافة الاستقصائية في الأردن، وكذلك الأمر بالنسبة لـ”حازم” الذي تواصل معي لتنبيهه إذا لم يتابع أي تفاصيل تخص السفر، كانت هذه الرحلة هي البداية الحقيقية لصداقة جمعتنا أنا و”حازم” و”هبة”. الكثير من الضحك والسخرية من كل شيء، إضافة إلى حب الطعام والأفلام، هكذا كانت صداقتنا توليفة جميلة تتجاوز أي اختلاف في الرأي، كلاهما يمتص توتري بسبب العمل، حكمة “حازم” ترشدني لمواجهة الصعاب وذوق “هبة” واختياراتها تريحني من التردد.

 

كان “حازم” أهلاويًّا متعصبًا يعشق الأهلي حتى النخاع، وأنا زملكاوية أنحاز لناديَ المفضل، وكنت وما زلت أردد دومًا عبارته الشهيرة بعد كل نجاح أحقق في عملي، سواء بنشر تحقيق صحفي مميز أو الحصول على جائزة صحفية مهمة أو حتى الترشح لها، كان يقول: “إنتي زملكاوية لكن أداءك في الشغل أداء النادي الأهلي، دولابك مليان بطولات”، كان يتعجب من حبي لأبو تريكة ويقول: “ده ياما عَلِم عليكم”، وكنت أرد بأنه حبيب الملايين.

كانت مجزرة بورسعيد من أكثر الأمور التي تُغضِب “حازم” في حياته، ما زلت أتذكر التيشرت الأسود الذي كان يرتديه حاملاً شعار النادي الأهلي حدادًا على أرواح الشهداء.

 

توالت اللقاءات بعد ولادة “يحيى حازم دياب”، لتكتمل سعادة هذه الأسرة الجميلة المتحابة، بطفل تكاد ملامحه تماثل ملامح “حازم”، وكأنه نسخة مصغرة منه، وكلما كبر زاد التقارب في الملامح، كان يعتبره من يصالحه على العالم بكل ما فيه من بغض وصراعات.

 

لاحظت اختفاء “حازم”.. اتصلت به أكثر من مرة ولم يرد كعادته، لكني شعرت بالقلق لسبب لم أعرفه. ثم اتصل بي وأخبرني بأنه أصيب بسعال أفقده الوعي، وأن الطبيبة تشك في وجود ورم بالرئة، أخبرته أن الأمر لن يكون كذلك وأن عليه التخلي عن عادته بكراهية تعاطي الدواء والاهتمام بعلاج نزلات البرد والأنفلونزا، وهنا أخبرني بكل شجاعة أنه على استعداد تام للأمر أيًّا ما كانت نتيجته، وفي يوم ظهور نتيجة العينة التي تم سحبها تواصلت مع “هبة” لتخبرني بأن “حازم” مصاب بسرطان الغدد الليمفاوية الخبيث، وأن شكوك الطبيبة في محلها.

 

شعرت بصدمة كبيرة. انهمرت دموعي. حاولت إحدى صديقاتي المقربات تهدئتي والقول بأن الأمر بسيط وله علاج نسبة شفائه كبيرة، وأن دوري الآن دعمه نفسيًا لتقبُّل العلاج، ومن ثَمَ تجاوز أزمته الصحية.

 

اجتهدت في القيام بدوري، كنت أقرأ عن الدعم النفسي لمرضى السرطان. علمت أنني يجب أن أزرع الأمل في نفسي قبل أن أزرعه في نفسه، وأن المبالغة في إظهار الاهتمام ليست صحيحة أبدًا، وأن الشعور بالشفقة هو ما لا يحتاج إليه على الإطلاق.

 

جاء موعد انعقاد مؤتمر أريج في البحر الميت في الأردن، اتفقت أنا و”هبة” على تشجيع “حازم” على حضور المؤتمر، كان حينها بدأ علاجه الكيماوي الذي سرعان ما ترك آثاره على “حازم”، انخفض وزنه بشدة وسقط شعره، وكان “حازم” معروفًا بكراهيته لحلاقة ذقنه وشعره، وحبه للطعام الذي يكسبه وزنًا زائدًا، وهو ما دفعه للشعور بالتوتر من مواجهة الناس، ولم يكن في ذلك التوقيت أخبر سوى قلة من أصدقائه بأمر مرضه. حاولنا تشجيعه ونصحته بالقول أنه “نيو لوك”، وبالفعل مرت الأيام بسلاسة دون أن يمرض، وهو تخوف كان موجودًا بسبب تدني مستوى مناعته الناتج عن العلاج الكيماوي.

 

تعرفنا حينها إلى “هبة الصغير”، وهي فتاة جميلة تعمل معيدة في كلية الإعلام، لها صوت عذب وموهبة رقيقة مثل ملامح وجهها في التلحين، سرعان ما انضمت إلى لقاءاتنا يرافقها الجيتار، ولفرط رقتها وضعت لحنًا سمته “حازم” في يوم وفاته مرفقًا بصورته.

 

تعافى “حازم” من السرطان بعد نجاح العلاج الكيماوي والإشعاعي في القضاء على الورم، ليعيش وكل محبيه سعادة التعافي، التي بكل أسف لم تتجاوز سوى أشهر قليلة، ليظهر ورم جديد صغير، لتسيطر الصدمة علينا جميعًا، ويبدأ المرحلة الثانية من العلاج الذي أنهكه بشكل غير مسبوق.

 

وقبل انعقاد مؤتمر أريج عام 2017 في البحر الميت، شجعنا “حازم” على الالتحاق بورشة الموجو للتصوير بالموبايل، وكان معجبًا بهذا التكنيك، لا سيما وهو من عشاق iPhone، وهي من الأمور الخلافية بيننا لكراهيتي الشديدة لهذا الهاتف اللعين، وبالفعل سافر “حازم” ولكن لم يكن قادرًا على التحدث لأن صوته بُحَ، وهو واحد من الأعراض الجانبية للعلاج الكيماوي، رغم ذلك نجح “حازم” في تكوين صداقات من لبنان وتونس، كان يتعجب لماذا أحبوه إلى هذا الحد وتعلقت قلوبهم به.. لو يعلم كيف حزنت “ساندي” وبكى “ميثم” بعد وفاته! كان يرى أن حبه لهما أمر منطقي لكن كيف عرفاه وأحباه.

 

زاد تعب “حازم” وزاد اختفاؤه وندر رده على الرسائل، حتى تفاجأت بمقال نشره في موقع Vice تحدث فيه عن الورم الجديد الذي أقعده عن الحركة، ثم تدهورت صحته وقضي أيامًا عدة في الرعاية المركزة، ثم تحسنت حالته وبدأ في الرد على الرسائل ونشر مقالاً في موقع مصراوي في منتهى الروعة عن قصة حبه مع “هبة”، واستمعت بالمقال رغم معرفتي بكل التفاصيل التي علمت نصفها من “حازم” والنصف الآخر من “هبة”.. كان موهوبًا حتى النخاع.

 

عادت حالة “حازم” للتدهور مرة أخرى، وصلني من أصدقاء مشتركين أن حالته تحتاج إلى معجزة، أردت زيارته، لكنه لم يكن يرغب في أن يراه أحد وهو مريض، وفي الحقيقة لم أكن أقوى على ذلك، حتى تفاجأت بخبر وفاته في مساء يوم الأربعاء 5 ديسمبر، أجهشت بالبكاء ولم أتمكن من الرد على كثير من الاتصالات التي تلقيتها من أصدقائي لمواساتي، رغم حاجتي الشديدة لاتصالهم، وعلى الفور أغلقت حسابي على فيسبوك؛ كانت كلمات الرثاء تقتلني، خصوصًا أن كثيرًا منها صدرت عن أشخاص لا يعرفون “حازم” شخصيًا، كنت أٌقول: “أومال لو يعرفوه كانوا قالوا إيه؟!”، الحقيقة أن الفقد صعب، لكنها إرادة الله علينا تقبلها.

 

كل ما أتمناه أن يمنحني الله العمر لكي أخبر “يحيى” أن أباه كان رجلاً خلوقًا موهوبًا، أحبه طفله بصدق، وعليه أن يَفخر به ويكون صورة منه.

مع السلامة يا “حازم”.

 

مع السلامة يا حازم

 

المقالة السابقةأول مرة أمومة: كيف أصبح قلبي أكبر من العالم؟
المقالة القادمةالاهتمام مبيطلبش: الاهتمام من طرف واحد واثره على النفس، هل الاهتمام هو الحب؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا