بقلم/ أمنية شفيق
أحببت أن تكون هذه نافذتي الأولى التي أفتحها على عالمي المفضل “الكتابة”، تحقيقًا لقول الرائعة رضوى عاشور: “أكتب لأنني أحب الكتابة، وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تُدهشني، تشغلني، تستوعبني، تُربكني وتُخيفني وأنا مولعةٌ بها”.
الكتابة ليست مجرد مساحات فارغة تمتلئ بكلمات لا جدوى لها، لكنها مساحة بقدر مساحة السماء، واسعة المدى، قادرة على أن تمنحك جرعات من الأوكسجين يكفي لحياة كل بني البشر، محركة لتروس عربة معطلة تتنقل بها من موضع لآخر، وعالم لعالم وفضاء أوسع وكواكب لم تُرَ، وأحلام مُحْقَّقة تستطيع أن تراها رأيّ العين، تدنو منك وتعيشها، حتى وإن كانت هذه العربة في موضعها الأصلي على هذا الكوكب الأرضي.
من يَكتب ليس مجرد تنفيسًا لهواء مُمتلئ بعوادم رمادية، لكنهُ يكتُب كي يتنفس هواء نقيًا من أثر ما ينشره على أعين ومسامع من يقرؤه، بخروج جزء من شخصه على الورق. جزء يصبح ماديًا ومعنويًا في آنٍ واحد، وليس مجرد حبر يُهدر.
فالكتابة هي الصاحب في السفر في هذه الرحلة الدنيوية، والخليفة لأفكار من يكتبها لمن يقرؤها بعده. صديقة لكل من له صُحبة وكل من ليس له، لا تشبه الموجودين دائمًا، ولا من ابتعدوا ولهم في الروح أثر.
بقدر ما ابتعدت عن الكتابة ستجد نفسك تُلقى بما أهمها لمن ينتظرها دائمًا، بلا كلل أو ملل. ستجد أقلامك وأوراقك تنتظر لتبث لها ما تشعُر وما تَعْجز عن أن تُعبر عنه بالعلن، بهما مساحات وليست مساحة واحدة واستيعاب لكل الشتات وتعقيدات الدنيا وبساطتها وضجيجها، مساحات تخرج فيها الكلمات في مكان واحد به براح لكل الحروف، فتجدك تمسك قلمًا ثم تخطو فتلون بالكلمات وتُعَبْر.
فلا تستمع لصوتك الداخلي القائل: مهما كتبت ستكون الفئة المُتأثرة بما كتبت فئة محدودة، وربما لا تكون هناك فئة من الأصل، وربما يكون هناك فئة ولو ضئلت حجمها وعددها واختزالها فى عدد أحادى ذي فرد واحد. وربما تكون راضيًا عما حققته رغم ضآلته فى عينيك. وربما لا تكون، وربما يكون جمهورك الوحيد نفسك غير مبالٍ بمن يتأثر، غير مبالٍ إلا بخروج ما بداخلك بطريقة ما تعبر بها عما بداخلك وهذا يكفي.
ولكن استمع لذلك: الأهم من الاستمرار هو الأثر؛ لو أثرت يومًا في أحد بالإيجاب أو بالإضافة أو بالتغيير أو بمعرفة شيء طيب، هذا هو الأهم من أشياء أخرى كثيرة، مثل أن تكونوا موجودين بدون تأثير أو إضافة. فالأثر أهم من الوجود، لأن الأثر وجود مستمر في شخصية من أثَّرت فيه، وهذا يكفي عن الوجود بالأسماء فقط، أو أفعال من غير تحقيق أثر. فربما تكون كلمة لكن وقعها أطول عمرًا من عمر صاحبها.
كتتابع صوت فيروز في كلمات أغانيها مصدرًا لراحة وهدوء في طرقات الضجيج وسفر عبر زمن لا يشبه أزمنة الأرض، باعث للطمأنينة في
نفوس أنهكها الركض.. دام صوتها كحلم عابر.. دمتِ الرفيقة التي ترفق بأحوالي المتغيرة، كطفلة راكضة على أرض تنبت بزهور نيسان والبيلسان، ويتساقط عليها أوراق تشرين، وصوت يحملك على سحب ممطرة منبئة برجوع أحب الفصول إليّ، ورسائل مرسلة إلى اللا مكان، وفنجان من القهوة الساخنة يدفئ الأرواح المنهكة، دام صوت الكتابة وصوت فيروز لي متنفسًا في صخب الحياة المُنْهكة.
الكتابة ليست مجرد مساحات فارغة تمتلئ بكلمات