مَن الجاني؟

673

 

كتبه: محمد فوزي

 

أوسكار

في العام 1989 خلال الحفل الـ61 للأوسكار، فوجيء الملايين من مُشاهدي حفل الجوائز السنوي، بتغيير يبدو طفيفًا، ولكنه لافِت للنظر في صيغة تقديم الفائز بالجائزة الفنية الأكثر تقديرًا على مستوى العالم.

“والأوسكار تذهب إلى…”.

كانت الصيغة الأساسية لـستّين دورة سابقة هي: “والفائز هو…”. ولكن قررت إدارة أكاديمية الفنون تغييرها؛ لكونها تُصرّح ضمنيًا بأن بقية المرشحين غير الفائزين بالجائزة هم “خاسرون”، فكانت “الأوسكار تذهب إلى..” أقل وطأة في التعبير عن الخسارة.

يبدو تصرفًا نبيلًا، ولكن بدا الأمر للبعض كرد فعل مُبالغ فيه لشكاوى الخاسرين؛ والتي كانت تتلخّص في أنهم “ضحايا” التقييم غير العادل لمواهبهم الفنية. وتسلل وصف الضحية إلى تعريف “البطل”، وخرجت في فترة الثمانينيات فكرة جديدة على الوعي الجمعي، وهي أنه بدلًا من أن تُقاتل في معركة حتى النهاية، يكفي أن تكون ضحية؛ ليقاتل الآخرون معركتك. وستظل في أعينهم بطلًا تحمل الكثير والكثير كـمجني عليه.

وتلك هي أزمة “بطولة الضحية” التي تنبّهت إليها إدارة الأوسكار، وقررت التعامل معها بخبث وذكاء. فليس لدينا فائزون جُناة.. ولا خاسرون أبطال.. ولكن لدينا تقدير فني يُدعى “الأوسكار” سيذهب الآن إلى فلان بن علّان. ولكن.. كيف بدأ الأمر؟

 

الضحية

الجميع يُعاني، هذه هي الحياة، وتلك هي قواعد اللعبة التي اتفقنا جميعًا على ممارستها؛ فالإنسان كائن “غير كامل”، أيْ أنه ليس مكتمل الوجود، فهو يحتاج إلى الطعام والشراب والعاطفة والنوم والأمان وغيرها؛ وإلا سيفنى. ورحلة إكمال هذه النواقص، هي الوقود الذي يلزمنا لمغادرة الفراش صباحًا.

وتلك الرحلة بطبيعة الحال، بها الكثير من الصعوبات، وتتناسب صعوباتها طرديًا مع قيمة جائزتها النهائية، مثل أي لعبة بلاي ستيشن أو سوبر ماريو -حسب سنة ميلادك أيها القارئ العزيز-. ولو اختفت تلك الصعوبات لقُضي الأمر.

ويكون لقب من يصل للجائزة “فائزًا”، ولقب من لم يصل “خاسرًا”. وفي الحالة الثانية، تتيح لك اللعبة أن تبدأ مجددًا. لكن عندما يُطلق “الخاسر” على نفسه “ضحية”؛ فتقتضي قواعد اللغة أن يظهر لفظ “الجاني”، ويُشار إليه كقوة خارجية ظالمة تسببت في الخسارة، وبالتالي تُرفع المسئولية عن الضحية، وتنجح الأخيرة في النظر إلى المرآة دون الخوف من الاتهام بالتقصير.

 

احتياج دور الضحية

ولكن من يريد أن يكون “ضحية”؟.. لا أحد. ولكن الكثيرين “يحتاجون” إلى ذلك. فدور الضحية هو أقصر الطرق لجذب التعاطف -وهو أسمى مشاعر التواصل الإنسانية-. وكذلك يوفّر عناء القتال -وهو أخطر احتكاكات التعاملات الإنسانية-، وهو أعمق بئر يُلقى بها سوط جلد الذات -وهو أفظع الآلام النفسية- فلم لا أكون ضحية؟

دور الضحية هو حيلة دفاعية نفسية، نهرب بها من المواجهة التي يصبح فيها الفوز مجرد احتمال غير مضمون، ونأمن بها إلى خسارة مضمونة .. ولكنها آمنة.

ويزداد الأمر سوءًا عندما يتحول التعاطف الإنساني إلى شفقة، والشفقة داء مُعدٍ. عندما ينتشر بين مجموعة من الناس تجاه أحدهم؛ يحوّلونه إلى بطل. وعندما يتسرّب إلى الشخص نفسه؛ تتحول محنته إلى مبرر لأي فعل كريه لم يُفكّر قبلًا في الإقدام عليه. والنتيجة؟.. بطل غير مسئول.. مجني عليه من الآخرين، ولديه من المبررات الكافية لتحويله إلى جانٍ لا يُحاسب! .. فمن الجاني الآن؟

 

نحن لا نزرع شيئًا من الخوف

وحتى لا يبدو هذا المقال قاسيًا على الضحايا؛ نسرد تجربتين سينمائيتين جمعت بين الراحلين “شادية وحسين كمال”. وهما فيلما “نحن لا نزرع الشوك”، و”شيء من الخوف”؛ واللذان -رغم ما يبدو من اختلافهما- إلا أنهما يحملان نفس الرسالة بعبقرية فنية نادرة.

فالفيلم الأول ميلودراما كما يقول الكتاب؛ فالبطلة مفعول بها مقهورة منذ بداية حياتها، وتُلقي اللوم على الزمن، والشوك الذي لم تزرعه ولم تروِه. ولم تتبدل شخصيتها على مدار الأحداث بأي مواجهة إلى الأفضل، حتى عندما أصابها الثراء والنفوذ؛ كان بفعل عجوز عشقها وأفاض عليها من أمواله.

وما كانت نهايتها؟.. الموت دون أن تنال من أحبّته. فالرسالة واضحة؛ الضحية سنتعاطف معها حتى النهاية، ولكنها ستموت وحدها خاسرة، وسيذهب كل منا إلى مشاغله بعد ذلك.

وفي فيلم شيء من الخوف، كانت شخصية الفنانة شادية على النقيض، بالرغم من الضغوط حولها -والتي كانت أكثر فظاعة من ضغوط “نحن لا نزرع الشوك”-، لكنها لم تتردد لحظة في الوقوف أمام من يحاول قهرها -حتى وإن كان حبيبها- حتى أن البلدة بأكملها التي كانت تعيش دور الضحية، استفاقت بسبب صمود “فؤادة” وحدها في وجه الطاغية.

وما كانت نهايتها؟.. انتصرت لنفسها، وجردت أهل البلدة من عباءة الضحية. وقاموا بمواجهة “رمز” عتريس لأول مرة. وما كانت نهاية “عتريس”؟.. الرجل الوديع الذي ظن أنه مجني عليه من جدّه، فتحول إلى جانٍ؟ .. الموت وحده.

 

تمثال لكل مواطن

الحقيقة أن “حالة” الضحية في جميع أحوالها هي “حالة وقتية” وليست دائمة، ولا بد لها أن تتغير يومًا رغم أنوفنا، وهنا الاختيار .. فإن كان الاختيار بتحمل المسئولية والمواجهة والنهوض مجددًا؛ ستنتهي “حالة الضحية”، وتبدأ “حالة القتال والإصرار”. أما إن كان الاختيار بالبقاء بمنطقة “الضعف” الآمنة؛ ستتحول الضحية إلى جانٍ يبرر جرائمه بما وقع عليه من ظلم لم يردّه عن نفسه، ويكتفي بمهمة إيصاله إلى غيره فقط.. وكأنها وراثة.

وأخيرًا.. نستشهد فيما يخص تلك المعضلة بقانون نحت تماثيل المقاتلين، وسبب اختلاف وضعية الفارس وحصانه. فأحيانا نرى الفارس على ظهر الحصان، ونرى الحصان رافعًا كلتا قدميه الأماميتين عاليًا.. وهذا يعني أن الفارس استشهد في المعركة أثناء القتال.

وعندما يكون الفارس على حصانه، ونرى الحصان رافعًا قدمًا واحدة فقط؛ فإن هذا يعني أن الفارس خرج من المعركة مصابًا.. ومات متأثرًا بجراحه بعدها بأيام .. أما عندما يكون الفارس فوق حصانه، والحصان مستقر لا يرفع أيّ من قدميه؛ فهذا يعني أن الفارس مات في فراشه.. دون معركة من الأساس.

كلٌّ منّا سيكون له تمثاله؛ إما في الميادين العامة، أو في قلوب أحبابنا، أو حتى في وجدان من يشاركوننا مأساة الحياة، ورمزيّة الحِصان هنا هي النفس، نفسي ونفسك، التي قد تستأمن بدور الضحية خوفًا من المواجهة، وتردد على مسامعك بأنك بطل لا يحتاج إلى قتال، أو التي قد تثور في وجه المصاعب بقتال شريف حتى النهاية. فأي حِصان تُفضّل؟

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةعن عضلات المسؤولية
المقالة القادمة1 يناير

5 تعليقات

  1. مقال جميل جدا و لكن ذلك لا ينفي وجود ضحايا بالفعل خاضة في أوطاننا العربية لم تتح لجميعهم فرصة المواجهة و المكسب.. قد يركبوا الحصان و يحاربوا و يفشلوا

  2. […] والنتيجة؟ .. شعور دائم بالتقصير (لأن الفرصة مبتجيش وده معناه إني متعبتش كفاية)، مشقة مستمرة، عدم الاستمتاع بالحياة وتشويه مصطلح “الراحة” ووصفه بأنه “دلع أو رفاهية”، إرهاق بدني ونفسي. انهيار الحياة الاجتماعية والعاطفية، غياب وجداني عن الواقع المحيط، وأخيرًا .. اعتبار “رحلة الكفاح” .. “تضحية”، وساعتها هيتحول الناجح إلى مجني عليه.. ويحترف دور الضحية. (راجع مقال من الجاني). […]

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا