1 يناير

764

 

 كتبه: محمد فوزي

 

الفرصة

“الفرصة بتيجي مرة واحدة.. امسك فيها بإيديك وسنانك”، عبارة مشهورة بنسمعها من واحنا أطفال لحد سن المعاش ويمكن أكبر.

بتكون بالنسبة للي بيقولها: نصيحة .. وبالنسبة للي بيسمعها: عامل مُحفِّز .. وبالنسبة للي يعرف حقيقتها بعد فوات الأوان: كدبة كبيرة… قوي.

طب ايه الخطر في العبارة دي؟

أولًا: مجرد ما بنسمع كلمة فرصة ونطبّقها على حياتنا وطموحاتنا، بنبدأ نتخيلها ونرسم تفاصيلها ونهندسها بشكل يخليها الأمل الوحيد في النجاح، ونحطلها معايير ونتايج من خيالنا، أو من مقارنة حياتنا بحياة ناس تانية ناجحة، وبتبقى الفرصة مشروطة بظروف معينة في خيالنا.

ثانيًا: نتيجة لـ”أولًا”، بنفضل طول الوقت منتظرينها. بنستنى فرصة الفلوس، فرصة الشغل الكبير، فرصة الشهرة، فرصة الحب الأوحد. وانتظار الشيء -بطبيعة الحال- بيزوّد الاشتياق إليه، وبالتالي بيخليه في ذهننا أكبر من حجمه.

ثالثًا: نتيجة لـ”ثانيًا”، انتظارنا للفرصة المشروطة، بيخلينا نسيء تقييم وضعنا الحالي مهما كان مميز؛ لأنه –ببساطة- مش بيطابق الشروط، وبالتالي أي نجاحات أو إنجازات، مش هنحس بيها لأنها –ببساطة- مش شبه الفرصة اللي حلمنا بيها.

رابعًا: نتيجة لكل اللي فات، بتتحول حياتنا بالكامل لرحلة مطاردة للفرصة الذهبية. ومع الأسف اللي بيحصل مع أي شخص طَمُوح، أن رحلة مطاردة الفرصة دي بتختلط بمفهوم الكفاح، وبتكون ملازمة له. والنتيجة أن “الفرصة” بتكون جايزة “الكفاح”، وده بيخلق شعور خطير جوّانا.. اسمه “استحقاق النتايج“.

يعني مش هوصل للي أنا عاوزه إلا من خلال العمل والسعي طول الوقت، بدون راحة، بدون توقف، لأن لو توقفت لثانية واحدة، مش هستحق نتيجة كفاحي. وايه نتيجة كفاحي؟ .. الفرصة اللي بحلم بيها، اللي أنا أصلًا خلقت شروطها ونتايجها من خيالي.

والنتيجة؟ .. شعور دائم بالتقصير (لأن الفرصة مبتجيش وده معناه إني متعبتش كفاية)، مشقة مستمرة، عدم الاستمتاع بالحياة وتشويه مصطلح “الراحة” ووصفه بأنه “دلع أو رفاهية”، إرهاق بدني ونفسي. انهيار الحياة الاجتماعية والعاطفية، غياب وجداني عن الواقع المحيط، وأخيرًا .. اعتبار “رحلة الكفاح” .. “تضحية”، وساعتها هيتحول الناجح إلى مجني عليه.. ويحترف دور الضحية. (راجع مقال من الجاني).

والمفاجأة عزيزي القاريء أن أصلًا التعريف اللغوي لكلمة “فرصة” في معاجم اللغة إنها: دور الشخص في القبيلة لشرب الماء من البئر. يعني الفرصة أصلًا “متعددة” و”متكررة” و”محتومة”. كده كده هنشرب .. بس لما ييجي دورنا، وهنعطش تاني، وهنستنى دورنا تاني، وهنشرب تاني.

كده يبقى تعريف الفرصة الحقيقي أنها مش قدر أو حظ، لكن حاجة بتتخلق جوّانا .. احنا اللي بنصنعها بسَعْينا، وبرؤيتنا لكل جايزة نجاح تبدو صغيرة بأنها نتيجة للي عملته قبل كده، وسبب للاستمرار في اللي عاوز أعمله بعد كده. وده واقع سعينا في الحياة: عطش، انتظار للدور، شُرب، عطش، انتظار للدور، شُرب… وهكذا.. بس لازم لما نشرب.. نرتوي!

 

الراحة

مصطلح الراحة والإجازة من الشغل والكفاح، هو مفهوم “الارتواء”، أننا نحس بالمياه وهي في جوفنا، ونستمتع بمرورها في جسمنا عشان تنعشه. وساعتها هنحس برضا مؤقت قابل للتكرار، وسعادة حتمية، وتقدير لقيمة المياه في حياتنا.

حياتنا العملية عبارة عن رحلة عطش للنجاح وتحقيق السعادة. والمياه هي هدفنا الرئيسي. ولكن تخيل عزيزي القاريء أننا وصلنا للبير، وشربنا، وقبل ما نعرف إذا كنا ارتوينا أم لا، قررنا نشرب تاني، وتاني، وتالت، ورابع، وعاشر؟

مش هنرتوي.. بالعكس، هنحس بتُخمة، ومش هنقدر نتنفّس! .. والحل؟.. أننا ناخد وقت راحة بين كل جرعة مياه، وساعتها هنفوز بحاجتين:

أولًا: هنقدر نتنفس.

ثانيًا: هنستمتع بالجرعة ونحس بقيمتها وعذوبتها.

ده بالظبط اللي احنا محتاجينه في حياتنا العملية، الراحة المؤقتة، بدنيًا ونفسيًا. عشان جسمنا يلحق يستوعب مجهودنا ويتخلص من الإرهاق، وعشان ذهننا يلحق يتخلص من الضغوط النفسية ويستوعب نتايج المرحلة الحالية من إنجازات وإخفاقات. ونكون بعدها جاهزين ذهنيًا لاستكمال الإنجازات، وتطوير أساليب لعلاج الإخفاقات، وجاهزين بدنيًا بنشاط عشان ننفذ السطر اللي فوق ده.

وساعتها الراحة هتكون “فرصة” كويسة عشان نهدا ونقيّم أوضاعنا ونعرف أن مفيش حاجة اسمها “فرصة”.. ولكنها رحلة.. ومفيش رحلة تخلو من المتعة.. حتى لو كنا طالعين جبل ايفرست.

 

الجوكي

سؤال مهم: لو كانت الأمور بالبساطة دي.. ليه كلنا مقتنعين بمفهوم “الركض” ورا النجاح لحد ما يتقطع نفسنا، وبنكون متأكدين أن الثمن المطلوب لتحقيق السعادة النهائية هو غياب السعادة الحالية والراحة الروتينية؟ الإجابة.. هي تدريب الخيل.

هل تعلم عزيزي القاريء أن الخيول تقدر تشوف تقريبًا لحد 360 درجة؟!.. يعني تقدر تشوف تقريبًا محيطها كله (ما عدا جزء بسيط)، طب ازاي نروّض كائن بالقدرة البصرية الكبيرة دي؟ كائن الإنسان الجميل اخترع الطريقة، وبدل ما يكون الـ360 ضده، بقت في صفه.

أول خطوة في تدريب الخيل، أن الفارس يقف في منتصف مضمار دائري، ويربط الحصان بحبل. وبطبيعة الحال، الحصان هيحاول يجري، لكنه هيجري في دايرة في منتصفها الفارس، وبسبب زاوية بصره الـ360 والدايرة اللي بيجري جواها، هيبقى دايمًا شايف الفارس قدامه، على نفس المسافة، ويتخلق عنده وهم أن الفارس في كل مكان.

مهما جري.. أي مسافة، ومهما بذل من مجهود.. كده كده الفارس قدامه وميقدرش ميشوفوش، وبالتالي يرتبط وجوده.. بوجود الفارس.

احنا الخيل، بقدرة 360 درجة لا نهائية، لكن مع الأسف بنتحط من سن صغير جوَّا دايرة، في منتصفها هدف السعادة المطلقة، وبينا وبينها حبل ثابت لا بيطوَل ولا بيقصر، شايفين السعادة ومش بنقرب خطوة ناحيتها مهما جرينا، ومنقدرش منشوفهاش، وايه أقصى إنجاز؟

أننا نكون أسرع في الدوران حوالين نفسنا، ونكون “خيل سبق”، ويتحول الفارس لـجوكي على ضهرنا، شايلين حِمله وبنجري معاه، ومش شايفينه.

السعادة بتتحول لحِمل تقيل شايلينه فوق ضهرنا، ملاصق لينا. واحنا أصلًا بنجري عشان فاكرين أنه بعيد وهنوصل لـه، لحد ما يفنى العمر في سباقات متتالية، بدون راحة. متهيألي لو الحصان وقف للحظة، ارتاح ذهنيًا وبدنيًا، وبص أبعد من نص الدايرة، أكيد كان هيقيّم حاله أفضل. وساعتها هيكون خيل بري ميخنقوش مضمار، وبيجري بأقصى ما عنده وسط الأشجار والسهول من غير لجام.

الكفاح ورحلة السعي ضرورية، لكنها لازم تكون ممتعة بشكل ما .. والهدف مهم، لكن مينفعش يعمينا عن حياتنا .. ولو كان التعب شيء بديهي، فالراحة شيء أساسي.

ومعلومة أخيرة.. هل تعلم عزيزي القاريء أن إجراءات قيد خيول السباق، بتسجّل كل الخيول الأصيلة بتاريخ ميلاد واحد؟.. 1 يناير، مهما كان يوم ميلادها الحقيقي. خد إجازة من الشغل واستمتع بيها، وخلينا نفكّر ثواني في المعلومة دي ومعناها.

 

 مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

 

المصادر:

How Do Horses See? The World From A Horse’s Point Of View – Horse FactBook

Why Do Thoroughbred Racehorses Have the Same Birthday? (horseracingsense.com)

 

المقالة السابقةمَن الجاني؟
المقالة القادمةالراحة: وقت التقاط الانفاس

2 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا