كنت أظن أنني دائمًا جائعة، دائمًا ما أُفكِر بالطعام، أشعر بمدى حلاوة مذاقه بمجرد تخيُّله، لا يمكنني أن أكتفي بطبق واحد من محشي ورق العنب، أو بقطعة واحدة من صينية المكرونة بالبشاميل، يرق قلبي حينما أرى صوص الشوكلاتة ينهمر مثل شلالات نياجرا من المولتن كيك، وتتخبط حواسي حينما أرى الجبن المُسَكَر يتمدد في قاع الكنافة النابلسية المغطاة بالفسدق.
كنت أشعر بذاتي وأنا أتناول أكلة أحبها، أشعر أنني واقعةً في الحب، لكن الأمر لم يقف هنا، فقد قُوبِلَ نهمي للطعام بالسخرية من المحيطين حولي عن وزني، نعتني أقرب الأقربين بـ”سيد قشطة” و”كرة البولينج المتدحرجة”. لم أخُض أي علاقات عاطفية في مراهقتي.. وحتى الآن، اللهم إلا تجربة أو اثنتين، إذا اعتبرتِ الحب من طرف واحد تجربة.
الغريب أن الإساءات لم تجعلني أتوقف عن تناول الطعام، بل كنت أغرق فيه أكثر وأكثر، كنت أبكي مع كل ساندوتش أعده خلال اليوم، ويتحسن “مودي” العام بتناوله، كنت أتعامى عن كلامهم بكل طبق أتناوله من طعام أحبه، كنت أرى الطعام رفيقي الوحيد، فهل رأيتِ مثلاً نوتيلا كيك تقول لكِ تشبهين البقرة؟ أو باكيت بطاطس ماكدونلدز ينظر إليكِ في اشمئزاز؟
أدركت أن ثمَّة خطأ ما عندما دخلت في دوامة الاكتئاب الكبيرة، حينها فقط لم يستطع الطعام أن يُشعِرني بالسعادة مهما كانت الكمية التي أتناولها، وزادت مشكلاتي الصحية إلى حد لم أتحمله، وبين هذا واكتئابي الشديد واستهزاء المحيطين بي، قررت أن أذهب لطبيب نفسي.. لأعرف أنني مُصابة بأحد أنواع النُهام العصبي، أو متلازمة إدمان الطعام.
ل.ع. ٢٧ سنة.
***
لا يمكنني أن أعدد لكِ عدد العلاقات العاطفية التي خُضتها من سن الثالثة عشر وحتى الآن وأنا في الخامسة والعشرين.
لم أشعر قط أني جميلة، كانت أمي تخبرني دائمًا أنني سمراء ذات شعر خشن، كنتُ في نظرها دميمة، لست مثل بنات خالاتي ذوات الشعر الأسود اللامع والبشرة البيضاء، معللةً هذا بأني -للأسف- “طلعت لعيلة أبويا”، ولهذا كنت أحرص على أن أجمع شعري المنكوش دائمًا في شكل كحكة صغيرة، حتى لا ينفر أحد من شكلي.
لم يخبرني أحدهم أنني جميلة، إلا ذلك الشاب الذى يكبرني بثلاثة صفوف دراسية، كان وقعها على أذني مثل السحر، وسرعان ما أصبحت أسيرته. وصدقيني.. عانيت أشد ما عانيت من معاملته القاسية لي، لكن “إنتي حلوة النهارده” كانت كفيلة أن تجعلني أتغاضى عن أي شيء.
توالت علاقاتي على النهج نفسه، إدمان الكلمة الحلوة جعلني أغوص أكثر في العلاقات المُستهلِكة، حتى أهلكت نفسي لآخر قطرة، وقتها فقط أدركت أنه يجب أن أحب نفسي وأن أراني جميلة أولاً حتى يحبني أحدهم بحق، فحينها لن أُضطَر إلى البحث عن الحب خارج ذاتي، ولن أُدمِن الشعور بأني مرغوبة.
م. ر. ٢٥سنة.
***
كلما لاح لي إعلان جديد عن حذاء أو حقيبة أو مستحضرات تجميل يخفق قلبي بشدة، أشعر أنها تناديني، تقول لي سأبدو جميلة جدًا عليكِ، فأبعث إلى الصفحة المُعلِنة وأشتريها فورًا.
لم تكن لديَّ مشكلة من أي نوع، أنا فقط أريد أن أبدو جميلة لنفسي، أحب تجربة العطور الجديدة والألوان المختلفة من أحمر الشفاه، ومنتجات العناية بالجسم.. بالبلدي “بحب أدلَّع نفسي”، أزمتي كانت في انتهاء مُرتبي قبل أن نصل إلى منتصف الشهر حتى، وهو ما كان يجعلني أستدين في كثير من الأحيان، لكن في النهاية ليس لديَّ أي مسؤوليات تجاه أحد، فليس ثمة داعٍ للذُعر.
أدركت فداحة الأمر حين شاهدت فيلم “اعترافات مدمنة للتسوق” مصادفةً على التلفاز، ذهبت لغرفتي وفتحت الدولاب يومها، ووجدت أطنانًا من عُلب المكياج وعشرات الأحذية والحقائب التي لا تزال بعلبها، شعرت بأن ثمة فراغًا يملأ صدري، وبأنني أنيقة لكن وحيدة جدًا، لم تعد تكفي نقودي لأخرج في نزهة مع أي من صديقاتي، لم تعد نقودي تكفي لأن أبتاع لأعزائي أي هدايا، لم تعد تكفي حتى لأن أشعر بالارتياح في الشهر بسبب ارتفاع أسعار المواصلات، فأخرجتها جميعًا وجلست أبكي بجانبها، شاعرةً بداخلي بضرورة التخلي عن إدماني للتسوق، والبحث عن شغف حقيقي أحقق فيه ذاتي.
ن. ج. ٣٠ سنة.
***
أنا ببساطة مدمنة للفيسبوك، عرفت هذا من اللحظة الأولى التي وجدتني فيها غير قادرة على الاستغناء عن العلاقات والصداقات التي أقمتها من خلاله، والتي لم تنزل لأرض الواقع قط، فإقامة أي علاقات اجتماعية واقعية كان دائمًا بالنسبة لي كارثية.
لا تستغربي المنشورات التي تتحدث دائمًا عن معاناة، أنتظر سماع رنة هاتفك الذكي بوصول رسالة من أحدهم، ليسوا “أوفر” كما تظنين، بل هم واقعيون للغاية، وأنا دليلك على هذا.
يعتريني القلق الشديد إذا ما صمت هاتفي بعض الوقت، أو إذا ما تركته من يدي لبضع لحظات، ورغم أنني أحادث الكثيرين، لكنني في نهاية اليوم أظل وحيدة، لكن يبقى الأمر الممتع هو إمكانية أن تلعبي عشرات الشخصيات غير شخصيتك الحقيقية، ولن يعرف أحد.
أ.أ. ٢٤ سنة.
***
منذ فترة ليست ببعيدة، كنت أظن الإدمان يقف عند حدود المخدرات، لم أكن أعرف إنه يتخطى ذلك بكثير، حتى قابلت هؤلاء الفتيات، لأرى إن الإدمان يتسلل إلى جوانب حياتنا واحدًا تلو الآخر، ويحتلها إلى الدرجة التي تجعلنا مُكبَّلين بقيود شفافة، لا نستطيع رؤيتها إلا نادرًا، حتى اكتشفت أنه يقبع بداخلي بعضًا من إدمانهن، فضلاً عن إدماني لأشياء أخرى.
بعد حديثى مع الفتيات، انتبهت لنهمي الشديد لمشاهدة المسلسلات الهندي، لشعوري بالاتزان والهدوء الذي لا يأتي إلا مع كوب النسكافيه، لتناولي الطعام وقت شعوري بالحزن أو الغضب، ولرغبتي الدائمة في تحقيق الإنجاز والنجاح اللذين يجعلاني أدمن عملي ودراستي إلى الحد الذي تتآكل معه علاقاتي الاجتماعية، لأكون مغتربة بين من أحب.
من الجميل أن نفعل أشياء تُشعِرنا دائمًا بالتحسُّن، خصوصًا في الجو الخانق الذي تفرضه الحياة علينا، خصوصًا في مجتمع ضاغط مثل مجتمعنا، لكن هذا لا يعني أن نغرق فيها إلى الحد الذي نتناسي معه أنفسنا، فالشعور بالتحرُّر الذي تخلقه القدرة على الاستغناء يمد بالقوة، والتخلص من سيطرة الأشياء علينا يجعلنا أسوياء، ولا عيب من زيارة الأطباء النفسيين في سبيل تحقيق هذا، فلا تكترثوا للنظرة الواصِمة للإدمان والتعب النفسي، لأنه في النهاية لا يهم سوى تحقيق الاتزان النفسي الكافي لحياة ليست مثالية، لكن نستطيع مواجهتها دون إدمان لأي من مظاهرها.