هلع شديد اعتدت الشعور به حين يتعلق الأمر بالمال، أتذكر كل المرات التي نفذ راتبي فيها مبكرًا، ما أن تنضب محفظة نقودي حتى أتحول إلى طفل صغير “شبطان” في كل شيء يراه، تنفتح النِفس، ويبدأ الشعور العارم بالحرمان “عاوزة آيس كريم، نفسي في بسكويت وسينابون، وجاتوه، عاوزة أجيب فراخ مشوية، وكمان عاوزة سمك، وخاتم فضة رقيق، وهدوم جديدة، لا أنا كمان محتاجة كوتشي…” تلمع تلك النظرة الحزينة في عيني، ويبدأ شعوري بالإحباط.
تعرفت عن قرب بأمثال لم تكن تعني لي الكثير قبلها، بالفعل “اللي معاهوش ميلزموش”، وحقيقي “القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود”، نهايك بأنه “خد من التل يختل”، وبالطبع “على قد لحافك مد رجليك”.
نفاد الأموال من المحفظة لا يعني فقط الشعور بالحرمان، لكنه يتحول ببطء إلى شعور بالذل، فجأة تطول الأيام وتزداد الطلبات، يثقل لسانك عن طلب المساعدة فـ”الدين سواد للخدين”، أتذكر كل تلك المقولات الحقيقية جدًا، “القلة ذلة” تتحول ببطء إلى دستور شخصي، فـ”اللي معاه قرش يساوي قرش”، و”بفلوسك بنت السلطان عروسك”، و”الدراهم مراهم”. يكبر الموضوع بسرعة، لأجدني أردد “الفقر في الوطن غربة”، و”معاك مال ابنك ينشال”، في أوقات “الفلس” تنعدم القدرة على الاختيار أو المفاضلة “صاحب القرش -فقط- صياد”.
على هذا الأساس بدأت أعيد ترتيب حياتي قبل فترة، ظلت تلك المشاعر جميعها في رأسي حين بدأت رحلة تقشف شديدة، شهور طويلة من الحرمان الطوعي جنَّبتني النفاد المبكر للمرتب وطلب العون، والشعور بالعجز أمام الأشياء في الفاترينات، فترة علمتني الكثير بشأن الأمر، لكن أهم الدروس أنني لن أشعر أبدًا بحاجتي لشيء إلا إن كنت عاجزة عن الوصول إليه. وجود نقود كافية بالمحفظة يعطي شعورًا عارمًا بالرضا والاكتفاء.
نتيجة بدت مرضية لكنها لم تكن مثالية، التقشف الشديد والاختيار الطوعي للحرمان يوفر النقود، لكنه ينهك النفس. نظرة سريعة في المرآة تكشف كل شيء، التقشف في مرحلة ما يتحول من أسلوب حياة إلى حياة كاملة، تنعكس على المظهر وتصل بعد فترة إلى الروح، يصبح اللحاف الذي نمد أقدامنا على قدر حجمه قبيحًا ومقبضًا، وتفقد الحياة في لحظة ما قيمتها “من ماله ولا يهناله”.
في تلك النقطة بالذات بدت لي مقولة كوكو شانيل هي الأفضل: “هناك نوعان من الناس: الذي يملك المال، والغني”، جملة قصيرة لكنها عنت لي الكثير، الغنى الحقيقي أن أحتفظ بما يكفيني، ولكن في الوقت ذاته أستمتع بمتع الحياة، معادلة صعبة ولكنها ممكنة، صحيح أن الادخار جيد والاقتصاد واجب، لكن بالتأكيد “الغالي تمنه فيه”، وأيضًا “لكل جديد لذة” و”خير الأشياء جديدها”.
هكذا اتخذت القرار بأن أتحرك للمنطقة الوسط، بين التقشف الشديد والحياة غير المنضبطة ماديًا، رفعت الشعار الشهير “إن شالله ما عن حد حوِّش”. دخلت سريعًا إلى تلك الجمعية ذات المبلغ البسيط، اخترت أن أكون الأخيرة، وبدأت في اقتطاع مائتي جنيه شهريًا، ليوافق موعد قبضها قدوم الشتاء، ما أن تسلمتها في يدي حتى بدأت أرسم الطريقة التي سأنفق فيها هذا المبلغ. اشتريت ملابس كنت أحتاجها، لكن الأهم أنني دلفت أخيرًا إلى محل الفضيات الذي كنت أرمقه من بعيد، وأتابع صفحته في صمت، واشتريت لنفسي خاتمًا من الفضة بفص أخضر رائع، ارتديته بمنتهى السعادة وما زلت حتى الآن أشعر بسرور عميق كلما نظرت لخاتمي الجديد، الذي يصادف أنه يليق على كل ملابسي، مهما اختلفت ألوانها، اشتريت لنفسي أيضًا “نوت بوك” من تلك التي أدمن اقتناءها، قررت أن أدوِّن بها الأحداث السعيدة فقط.
سعدت كثيرًا بمهاداة نفسي، واكتشفت أن التقشف الناجح يليق به بعض المهادنة.. باختصار حاولت تلوين “اللحاف”، هكذا أصبحت الحياة مقبولة، وبت على يقين أن التقشف جيد ومفيد، لكن حب النفس أفيد، وإن لم يكن التقشف من أجل المصلحة الذاتية، فما هو إلا عذاب وحرمان، وبالتأكيد لست بحاجة للتأكيد أن “مال الكنزي للنزهي”.