الحظر هدنة نرى بها قيمة الحياة

1516

عندما كنا نتعلم الصيام ونحن صغار كانت الأمهات تقول لأولادهن إن بالصيام يتعلمون أن يُقدِّروا النعم التي اعتادوا عليها، وأقلها كان الطعام. أتذكر في أحد الأيام أني كنت أضع قطعة حلوى على مائدة الطعام، وأنظر إليها كلما مررت بجانب المائدة في انتظار انتهاء الصيام. على الرغم من أني -في وقت لاحق- لم أكن أهتم بالحلوى ولم تكن لها نفس القيمة عندما كانت أمي تأتي بها في صندوق مليء لنأخد منها حينما نشاء في الأيام العادية. رغم إدراكي الطفولي فقد وصلتني فكرة أن هناك نعمًا كثيرة قد يمر عليها الوقت وتتحول لعادة يليها ضمان وجود تلك القيم أو النعم حتى تتحول إلى روتين يومي مضمون. تبدو محاولة تشبيه حالة الحظر والعزلة والقلق التي نعاني منها جميعًا بطقس الصيام ساذجة، أو من الممكن أن تبدو استخفافًا بحجم المشاعر التي تمر بها الآن، ولكن لندع الأحكام جانبًا حتى يتنهي الحديث.

القيم المضمونة قبل الحظر

1. قيمة الحرية

لم نعد نبحث الآن عن حرية الرأي أو حرية التعبير ولا حرية الاختيار، بل تقلص طموحنا في الحرية إلى حرية الخروج من بيوتنا، نشتاق إلى حرية الجلوس على المقاهي مع الأصدقاء، وحرية التسوق دون هلع الشراء النابع من غريزة البقاء، وحرية الاختلاط بالغرباء والتعرف عليهم دون مسافة لا تقل عن مترين.

2. قيمة الذهاب للعمل

نعم العمل، العمل الذي كان يعد للكثير منا نقمة، أصبح قيمة كبيرة، ننظر الآن خلفنا ونرى أن الطموح لإعطاء المزيد من الجهد هو متعة، تحقيق الأهداف متعة، الجلوس مع الزملاء وإلقاء النكات متعة، الاستيقاظ مبكرًا الذي كنا جميعًا نشكو منه، ونحلم بالإجازة الأسبوعية حتى نستغرق في النوم. اليوم عندما توفر كل الوقت للنوم، نسهر ليلاً بعد متابعة كثير من الأخبار المقلقة، التي تتركنا لخيالنا نرسم به أسوأ سيناريو للمستقبل. اليوم نفتقد ما كان يجعلنا العمل نشعر به، مثل شعور ولو بسيط بتحقيق الذات، الشعور بأننا جزء من حركة العالم حتى ولو كنا نشارك في تلك الحركة بالقليل أو القليل جدًا.

3. قيمة الأهل والأصدقاء

بعد أن تباعدنا وكنا نرى رسائل البعض ونتجاهل الرد عليها، وبعد أن كنا نتهرب من الزيارات العائلية ونخشى الصداقات الجديدة، اليوم لا نستطيع أن نلقي السلام على جيراننا دون شعور بالقلق، ونشارك الغرباء في جروبات العالم الافتراضي بمشاعرنا وقلقنا وحالاتنا المزاجية، نشتاق إلى الحكي في أوساطنا الآمنة، ومشاركة المقربين قصصنا، والبكاء في أحضان أمهاتنا، اللاتي لا نستطيع زيارتهن خوفًا عليهن. اليوم صار الونس هو أكبر حلم لنا، وأحضان الأحبة والمقربين بمثابة ملجأ نشتاق اللجوء إليه، وجلسات الأهل المزدحمة أصبحت أمنية العام الجديد.

4. قيمة الأسرة الصغيرة

“البيت وناسه والخمسة ستة اللي إحنا منهم” كما غناها مدحت صالح، والتي قالها بسخرية أحد صانعي المحتوى على السوشيال ميديا “ولادي ومراتي طلعوا لطاف والله”، تلك الأسرة الصغيرة والملجأ الآمن لنا جميعًا، والهدف الأول للجميع الذي وضعه البعض كهدف خامس أو سادس، والتي من أجلها نذهب للعمل والمدارس والنوادي، تلك القيمة الحقيقية التي تدور حولها كل مجهوداتنا، فالزوج والزوجة كان الأصل في زواجهما هو مشاركة الحياة في السراء والضراء، أي وجودهما جانب بعضهما بعض، وأن يكون كل منهما داعمًا للآخر ومنفذًا للآخر وقوة للآخر، وسترًا وسرًا لبعضهما، الآن بعد أن هدأ العالم، عليهما أن يعودا بتلك العلاقة إلى الأصل فيها، أن تكون علاقتهما هي الجذر الذي يراعي باقي أفراد تلك الأسرة. اليوم مشاعر أطفالنا أهم من ذهابهم إلى المدرسة، شعورهم بالأمان وسط دفء أسرتهم، تناول الطعام معًا، مشاهدة الأفلام معًا، المحادثات والعين أمام العين، كل هذا هو الأبقى، وهو ما يصنع منهم بشرًا حقيقيين، لذلك اليوم فرصة لإعادة تصنيع بيوت دافئة.

الحظر هدنة وليس اكتئابًا

وبعودة لقصتي مع الحلوى، فالوقت الذى قضيته وأنا أنتظرها، كان أمامي أن أجلس وعيني لا تفارق حلواي أو أبحث عن متع أخرى، فاخترت المتع الأخرى. جلست مع أخي لنشاهد الكارتون، ذهبت مع أمي إلى السوق حتى أستطيع شراء الفاكهة التي أحبها، جلست مع أمي وهي تطهو لنتحدث عما يخطر ببالي، نظمت ملابسي فكنت أحب الاهتمام بها، وجلست مع أبي لنشاهد حلقة المسلسل، بحثت عن متع أخرى، لا تغنيني عن الحلوى ولكن تجعل الانتظار يعني شيئًا له قيمة.

هناك قيم أخرى قد نجدها حولنا، وقد نغفل عنها، فليس هذا هو كل شيء ولكنه البعض القليل منه. نعم الحظر يدعو للاكتئاب، مشاعره مليئة بالملل والحزن والترقب والقلق، الأيام تشبه بعضها، والوقت يمر ببطء، وكل الأخبار تدعو لمزيد من الترقب، لكن تمسكنا بتلك المشاعر قد يُضيِّع بعض الفرص، ولأننا ما زلنا ننظر لقطعة الحلوى. رغم أن ما وجدته دونها لم أكن سأراه وهي في يدي. افتقاد حياتنا السابقة مشاعر تُقدَّر لكن ماذا عن حياتنا الحالية.

نعم الحظر من الممكن أن يتحول إلى سجن جماعي، ولكن أيضًا من الممكن أن يتحول إلى هدنة، هدنة من السعي لمعرفة سبب السعي، هدنة لإعادة اكتشاف من نحن؟ وماذا نفعل هنا؟ ولماذا سلكنا هذا الطريق؟ ومن يستحق أن يكون معنا للنهاية؟ من نريد أن نتمسك به حتى النهاية؟ هدنة لمعارك لم تستحق أن نخوضها ومعارك لا بد أن نبدأ فى التخطيط لها، هدنة لنعرف القيم الحقيقية في حياة كل منا على حدة، والتي نريد أن نكمل الطريق بها ومن أجلها، هدنة لنعرف الطريق، أو حتى هدنة دون هدف، لعلها هدنة فقط تجعلنا نتوقف، العالم كله توقف فلماذا نحن لا نتوقف.

المقالة السابقةقبل نهاية العالم بقليل
المقالة القادمةعن فيلم فوتوكوبي والحظر والوحدة
استشاري صحة نفسية. كاتبة في مجال الصحة النفسية والمجال الاجتماعي.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا