عن فيلم فوتوكوبي والحظر والوحدة

2453

أتذكر أني قرأت في رواية ما، أن قد تتشابه أقدارنا وقد تختلف، لكن المؤكد أننا سنمارسها بطرقنا الخاصة. لا أتذكر حقًا أين قرأت هذه الجملة، ولكن ما أنا أكيدة منه أنني أؤمن بها بكل جوارحي. تأكدت من هذا أكثر بينما كنت أستمتع بمشاهدة فيلم فوتوكوبي بينما أغدقت علينا عدد من منصات المشاهدة المتميزة باشتراك مجاني لمدة شهر كامل، نوعًا من تخفيف وحدة المواطنين الملتزمين بدعوة الحكومة. كانت لهذه المنصات مفعول السحر لصرف تركيزي ولو بعض الشيء عن أجواء التوتر والترقب إلى أجواء أكثر رحابة وأريحية، حيث الكثير من الاختيارات المتميزة.

عن فيلم فوتوكوبي ونظرة أعمق لمفهوم الوحدة

قد لا يكون فيلم فوتوكوبي الأعظم ولكن الأكيد أنه الأطيب، خصوصًا في هذا التوقيت، وكأنه طبطبة إلهية جميلة، فبينما نعاني من الوحدة الجبرية تحت تأثير الحظر، عانت كل من “صفية” و”محمود” بطلَي فيلم فوتوكوبي من وحدة تبدو اختيارية، ولكنها في حقيقة الأمر وحدة إجبارية مثلنا، أجبرهما عليها تقدمهما في السن وبُعد الأحباب وانشغال الأصدقاء، ليبقى كل منهما يدور في فلك الوحدة منفردًا. فقد تتشابه أقدارنا وقد تختلف، ولكن المؤكد أننا سنمارسها بطرقنا الخاصة.

الأستاذ محمود

بعد أن مرت سنوات الصبا والعنفوان وجد “محمود” نفسه يواجه نتيجة اختياراته السيئة في شبابه، حينما قرر الانكباب على العمل لساعات طوال مستمتعًا بشهوة النجاح الوظيفي والتحقق، مهمشًا ما عدا ذلك، ليفاجأ بنفسة رجلاً طاعنًا بالسن، يسكن وحيدًا بمنزل بسيط بلا ولد أو سند، انفض عنه الأصدقاء بانشغالات الحياة المتوقعة، ليتشبث هو ببقايا ما كان يعطي لحياته قيمة سابقًا، وهو امتلاكه لمحل تصوير مستندات (فوتوكوبي) بسيط جدًا، مستغلاً ما تبقى لديه من احترافية الكتابة على الحاسب، ما أعانه على كتابة بعض أبحاث الطلبة المنشغلين بأمور أهم، وبذلك يوفر لنفسه دخلاً بسيطًا، ولكن كافٍ إلى حد ما.

حتى يسوقه الحظ إلى السؤال الأهم، والذي سيضع البطل أمام حيرة كبيرة “لماذا انقرضت الديناصورات؟”، يتفكر البطل بالسؤال ويجعله شغله الشاغل لأيام طوال، ويشعر بمدى الشبه بينه وبين الديناصورات، فإن مات فلا شيء سيبقى منه ليخلد ذكرى مروره بالحياة، وقد لا يكون لأحد الطلاب حماس البحث عن سبب انقراض “الأستاذ محمود”، هذا الطفل الذي يسكن جسد كهل.

تُحرك الفكرة لديه مخاوف، تحفزه للانفتاح على العالم قليلاً بما تبقى لديه من شغف، وأول ما تقع عليه عيناه حين قرر أن يتنفس كانت جارته الجميلة الهادئة “الست صفية”.

فيلم فوتوكوبي

ست صفية

“إنتي جميلة قوي يا ست صفية!”، بهذه الجملة الخبرية البسيطة صرح “محمود” لـ”صفية” بحبه لها، هذه الجملة السهلة التي توضح مدى بساطة وجمال هذه الشخصية الرومانسية التي لم تعنف ابنها لعدم سؤاله عنها، أو تلح بمساندته النفسية التي يعزها عليها في كل مرة تذهب لتتأكد أن الأورام الخبيثة لم تُجدِّد انقضاضها عليها. هذه الأنثى الحالمة التي تحب ليلى مراد وتنتظر غنوتها على الراديو كل يوم في التسجيل الوحيد الذي أخطأ فيه فريد الأطرش وغنى الغنوة بالصيغة المؤنثة، ليؤكد نظرية “الست صفية” كون الأغنية في الأصل كانت لليلى وليست لفريد.

ولكن للأسف بينما يتجدد لديها الأمل كل يوم أن تذاع الغنوة حتى يلطمها الواقع، لتُصرِّح ذات مرة بسكون جميل لطبيبتها “إنتي الحاجة الوحيدة اللي بستناها وبتيجي يا دكتورة داليا”، نعم يا “ست صفية” أعلم يقينًا أنك قد تكوني أحسن حالاً من “الأستاذ محمود”، فأنتِ لديك بقايا أمل، ولكن أعلم أيضًا أن الأصعب من ألا يكون لديك أمل بالحياة هو أن يكون لديك أمل يتجدد يوميًا ليرطمك الواقع أرضًا فيتركك صريعًا للخذلان. هكذا تمر الأيام عليها دون أن تهتم بإعطائها أقل ما تتمناه من أغنية على الراديو، أو اهتمام تفتقره بشدة من ابنها وحيدها، وما تبقى لها من إرث الشباب. قد تكون اختيارات “ست صفية” أذكى في الحياة عن “الأستاذ محمود”، فقد كوَّنت أسرة، ولها -نظريًا- سند بالحياة، ولكن الحقيقة أن وحدتهما كانت وحدة تفوح منها رائحة الخوف من الموت وحيدًا دون ذكرى تُذكَر.

هذا وحتى تستسلم لدفع طبيبتها الشابة إلى أن تلتفت لمحاولات “الأستاذ محمود” بعد أن أثبت صدق نيته، ليعطيها بما تبقى له من شغف بعض الوعود القليلة بونس تحتاجه بشدة، بل تتعطش إليه.

فيلم فوتوكوبي

ما أنا قديم برضو يا ست صفية

يا مسهر دمعي على خدودي كرهني غيابك في وجودي
إن سبتك أدبل على عودي وأرجع من غير ما تقول عودي

هكذا استمتع “الأستاذ محمود” بملامح “صفية” المندهشة بعد أن اكتشفت علمه بنسخة فريد الأطرش الوحيدة، التي يتخللها أبيات ليلى مراد. حينها ربما حقًا أيقن كلاهما أن شعورهما بكونهما مجرد ديناصوران تركا وحيدين بعد أن انقرضت كل القبيلة ليس بصحيح، أو ربما هما آخر ديناصورين على وجه البسيطة، وهذا ليس بسيئ أيضًا، فهذان الديناصوران لحظهما السعيد يشعران بانجذاب لبعضهما. لم يكن العيب في شعورنا بكوننا مختلفين، ولكن شعورنا بالانعزال داخل المجموعة لهو الألم الأكبر.

فيلم فوتوكوبي

تتجوزيني يا ست صفية؟

يكررها “محمود” ويستميت في تكرارها. هو يلمس جمال “صفية” ويتابعه منذ أمد، ووجد فرصته الذهبية عندما قررت النزول للصيدلية لأخذ الحقنة بدلاً من أخذها بمنزلها، ليجد بهذه الدقائق فسحة الأمل الأكبر بيومه، ليحدثها عن أي شيء ويصرح لها عن حبه للسينما ويدعوها لمشاهدة أي فيلم، فرغم فلوسه القليلة ولكن كان الأهم لديه من أن يأكل أو يشرب هو أن يتونس بصحبتها فقط، مما يؤكد أن الجسد قد يصمت عما يحتاجه إن تمتعت الروح بفسحة الأمل.

هكذا أصر “الأستاذ محمود” لتمتثل له أخيرًا “الست صفية” بعد أن أهداها في عيد الحب شريط تسجيل للأغنية التي طالما انتظرتها. حينها نط قلبي فرحًا معها وهي تتمايل بفستانها الأحمر متناسية ثقل قدمها من السكري. كانت روحها ترقص فرحًا حتى امتثل جسدها لروحها، لتظهر بأحلى صورها، وتتأكد أخيرًا من جملة “الأستاذ محمود”، فحقًا كانت “جميلة قوي الست صفية”.

فيلم فوتوكوبي

الوحدة ليست أن تكون بمفردك، فقد تكون أسعد من أبطالنا حظًا، لك ولد وأهل حولك ولكن تشعر بالوحدة بمكان عميق بقلبك، وقد يكون جهلك بمدى عمقه يصعِّب محاولاتك أن تتلبس روح الطبيب وتلتقطه لتتخلص منه، ولكن الأكيد أن الوحدة يدفعها عن روحك بعض الونس، فلنتمسك معًا بمسببات الونس، ولتكون أولى خطواتنا أن نستمع معًا لكلمات “قلبي ومفتاحه” على لسان الجميل فريد الأطرش، ولنحاول أن نترك العنان لأرواحنا تتراقص بحرية كما فعلت “الست صفية”.

اقرأ أيضًا: في العزل المنزلي: 11 فيلمًا للقضاء على الملل

المقالة السابقةالحظر هدنة نرى بها قيمة الحياة
المقالة القادمةطعم البيوت في العزل الصحي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا