قبل نهاية العالم بقليل

2151

هذا البيت ليس بيتي.. أفكر في هذا وأنا أعقمه بالكلور، أرش الأرضيات ومقابض الأبواب، ومفاتيح الكهرباء. أفكر في أن الكلور بنسبة معينة يقتل فيروس الكورونا، لكن إذا زادت نسبته، فسيتلف الأثاث والسجاجيد والملابس، وقد يتلف صدورنا أيضًا. أحضِّر الإفطار والعشاء والغداء، وما بينها. أُحضِّر البان كيك لأن الصغار يريدون العبث قليلاً بأغراض المطبخ، أُحضِّر الفشار لأننا سنشاهد فيلمًا للتخلص من الملل، من قال إني أشعر بالملل؟! أنا أشعر بآلام أسفل الظهر. أقوم لتحضير المزيد من الساندوتشات ﻷن الصغار يشعرون بالجوع مجددًا وبشكل مفاجئ بمجرد الوصول إلى الفراش.

أعقم كل شيء، مشتروات السوبرماركت، علب الحليب والجبن وزجاجات الكاتشب. الخبز يسخن في الفرن، والأكياس كلها في القمامة. أغسل الخضراوات كلها عند شرائها. هل الخل يكفي أم نضيف الصابون؟ هل يمكننا غسيل الخضراوات بالصابون؟ ألن يترسب الصابون عليها؟ أرص الخضراوات بعد غسيلها على فوطة كبيرة، وأجلس لتجفيفها وفركها جيدًا واحدة تلو الأخرى، وأنا أفكر بينما أنا أغسل الخضراوات ربما يكون الفيروس مختبئًا هنا في أي ركن يصنع الموت دون أن أراه.

يقولون إن الأزمات تكشف عما في نفوسنا، وأقول إن الملل يكشفنا أكثر. لا مساحة للتجاهل، ولا مكان للفرار من رؤية الحقائق، أو تسمية الأمور بأسماء لطيفة. الفراغ لا يقتل، لكنه أسوأ، يتركنا ﻷفكارنا دون مهرب.

أرش المزيد من الكلور على الأرض، هل يعني هذا أن بيتي يبرق من النظافة؟ لا أبدًا، منذ 20 يومًا أتأمل التراب على زجاج النافذة وأقول غدًا سأغسل النوافذ، لكني لا أفعل شيئًا. أذهب إلى النوم مبكرًا، لكني أظل أتقلب في فراشي حتى الفجر بلا نوم، وحين أنام تداهمني أحلام مختلطة، تتراوح بين الكوابيس والذكريات البعيدة. أستيقظ من النوم في وقت متأخر من الظهيرة، مجهدة كأني كنت في معركة. لأقضي النهار في متابعة الأخبار، أنتقل من أعداد الضحايا إلى أعداد الوفيات، أقيم في ذهني المقارنات، وأحسب النسب المئوية وأراجع الإحصاءات، أنا التي لم أكن بارعة قط فيما يخص الحساب.

تعرفي على: التعليم المنزلي في مصر أماكنه وشروطه

الأرقام تصيبني بالصداع دائمًا، وحين أصاب بالصداع أنتقل إلى صفحات الإنستجرام، يبدو العالم في صور أصدقائي وكأنه أفضل. صديقة تصور الأنشطة التي تمارسها يوميًا مع أطفالها، وأخرى تصور روتين العناية بالبشرة والشعر أثناء الحجر المنزلي. وأخرى تصور الأكلات الجديدة التي قررت تجربتها لتستغل الوقت وتتغلب على الملل. وأخرى تستعد لتحضيرات رمضان.. آخرون يشاركون مواقع تعرض كورسات، وهناك من يعلن أنه بدأ في تعلم لغات جديدة.

يبهرني هذا الحماس، ويصيبني بالجنون أيضًا، أشعر بالعبث يحيط بي، الجميع يستغل (الفرصة) بينما أنا وحدي أكاد أصاب بالجنون. أغرق في حفرة اليأس والأسئلة، وأشعر بالعبث أكثر عندما أدخل إلى مجموعات الواتس آب الخاصة بالمدرسة. بينما أنا غارقة في الأسى هناك أمهات أخريات مستمرات في تعليم أبنائهن والمذاكرة إلى اللا نهائية وما بعدها.

أتأمل الصغيرة التي تنتقل من شاشة الهاتف إلى شاشة التلفاز وأنا لا أستطع إيقافها، بينما الأمهات الأخريات يواظبن على المذاكرة اليومية، ومواصلة المناهج، بل وإرسال (الهوم وورك) للمدرسين على الواتس آب لتصحيحه، وحل أنشطة إضافية بعد الانتهاء من (الهوم وورك). يسألن عن موعد الامتحان، ويتبادلن المواد التعليمية بشغف، شغف يشعرني بالعبث حينًا، وبالأسى لحال صغيراتي حينًا آخر. أتساءل أين يجدن الطاقة؟! هل أنا الوحيدة المحبطة في هذا العالم؟!

أقرر أنني سأغير حياتي، وأن هذا هو الدور الحقيقي للكارثة. في كل أفلام الكوارث تتغير حياة الأبطال للأفضل في النهاية، ويكتشفون جوهرهم الحقيقي، حتى بعد خراب العالم من حولهم. لا بد أن أكتشف جوهري الحقيقي أنا الأخرى. أستيقظ مبكرًا، وأذاكر للصغيرتين، وأعد البان كيك معهما. نمارس الرياضة، ونلعب على الإكس بوكس، ونصنع دمى من القماش، وأقضي 3 ساعات في ترتيب الأرفف الداخلية للمطبخ، وأقرأ ثلاثة دواوين لشاعرتي المفضلة، كل هذا في يوم واحد، يوم مليء بالحماس.. لكنه يوم واحد لا يتكرر.

أعود مرة أخرى لحلقة الهلع. أشعر بالهلع، “هذه نهاية العالم” أقول وأنا أقبض بكفي على قلب صغيرتي. يقول بنبرة يحاول أن يجعلها متفائلة: “ليست نهاية الدنيا، ربما يموت مليون أو مليونان لكن العالم سيستمر”. صديقة تحدثني عن الطاعون، والكوليرا، والملاريا، والشدة المستنصرية، تخبرني أن البشرية مرت بالكثير، وأن هذه ليست نهاية العالم.

حسنًا ربما لا تكون هذه نهاية العالم، لكن قلبي لا يتوقف عن الهلع. أفكر في الحيوات التي ستتوقف من حولي، في البيوت الصغيرة التي يلحق بها الخراب، في المشاريع التي تفشل رغم طموح أصحابها، أفكر كثيرًا في من هم في السجون، وأفكر في الصغار، في عالم يموت فيه الجميع، ويحظى فيه الأطفال باحتمالات نجاة مرتفعة من الفيروس، أفكر أن عليَّ أن أعلمهما أساسيات النجاة من عالم لستُ بجوارهما فيه، لطالما حدثتهما عن المحبة، عن الحرية، عن الخير. لماذا لم أحدثهما أكثر عن النجاة والقتال؟!

أقول: “سنموت بعد قليل”

فيقول: “لا بأس من إطالة هذا القليل بعض الشيء”.

اقرأ أيضًا: يوميات أم في زمن الكورونا

المقالة السابقةلكل أم: كيفية قضاء الوقت مع الأطفال في المنزل
المقالة القادمةالحظر هدنة نرى بها قيمة الحياة

5 تعليقات

  1. من المؤكد أنك قمت بجولة بداخلى قبل أن تدونى كل ما وجدتيه
    اقرأ وكأنى اقرا نفسي من الداخل
    سلمت يمناكى⁦❤️⁩

  2. وااااو بجد رااائع .. كأنك بتتكلمي عني بكل التفاصيل بكل الاحاسيس بكل الأفكار بكل المخططات والروتين اليومي
    اسلوبك مميز وسلس وشيق وممتع .. مبسوطة اني قريت لك وإن شاء الله اقرالك دائما ⁦❤️⁩

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا