مصيف زمان: رمال برائحة جَدِّي

1442

“يا ناس يا ناس الُدنيا ضاربة في العالي.. رملة وبحر وشمسية ولا على بالي.. يلف الزمن ويدور والصيف ييجي عليه الدور، ما الصيف خلاص بقى غالي، خُد تعالى وقرّب صيفنا كله مكهرب، صرف مبيخلصشي.. من هدومنا هنهرب.. جو حر نار.. شمس ليل نهار.. يا صيف يا صيف”.

ربما كان لهذه الكلمات بصوت أسطورة الشعبي “عبد الباسط حمودة” الفضل في إشعال فتيل رَطِب لإحدى ذكريات صيفك الماضي، وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي تسمعها فيها من الأساس! أيًّا كانت حالتك، تنفس الصعداء واطمئن؛ لن يشبه صيف عبد الباسط الصيف الذي سأحدثك عنه خلال السطور القادمة.

عمرو دياب ومصيف الطفولة

“يدق الباب.. أقول هي.. أقول رجعت خلاص ليَّ.. وتخلص غربتي وأفرح وأخاف من فرحتي أفتح، تكون لاعبة الظنون بيَّ وتطلع تاني مش هيَّ”. على أنغام ذلك اللحن المرح الخفيف، وجدتني ريشة تتراقص على أطراف أصابعها، ممتطيةً رمال راس البر في صيف 2004، تشير أوراقها الثبوتية إلى قضائها 14 عامًا في هذه الحياة، بينما تخبرها “أي حاجة تيجي من ريحة الحبايب.. بتطمن قلبي اللي مشغول ع اللي غايب” أن حقيقة الأمر ليست هكذا، رغم خلو الحقيقة من أي أمر.

لا شيء سوى حلم مراهِق بغدٍ أكثر خفة وأُلفة، في حاضر مثقل بالاغتراب، ولكن كيف -حينها- لإنسان أيًّا كانت حالته أو عمره أن يبحث في أسباب تذكر، بينما تجتاح “وحشتيني.. وحشتيني.. سنين بعدك على عيني، ليالي كنت مش عايش ومستنيكي تحييني” كيانه، وتداعب ذرات هواء الصيف في خلوته ومخاللاته، بينما يهب الجميع متراقصين دون أن يتحرك فيهم ساكن، حينما تتساءل نسمات الشاطئ من حولهم -في حيرة “ليه يا قلبي كل يوم بتحب واحدة ولسة مش لاقي اللي عايزه في أي واحدة”.

أول رسالة حب

بالنسبة لفتاة جانحة للوحدة بالفطرة، كان الصيف هو صديقي الوحيد، كنت أُراهن عُزلتي طيلة العام بأنه سيكون الجائزة الكبرى، وكنت دائمًا ما أفوز بالرهان. رهان أعلقه على تلك الشجرة الوحيدة على الشاطئ، علَّ إشراقة ستأتي من بعد طول خفوت، كتلك التي خلَّفتها على روحي تلك الجلسة الشاطئية الليلية، رفقة جدي، حينما كشفتُ له لأول مرة بشيء من عدم الارتياح، أمر الرسالة المراهِقة التي أرسلها لي ابن عمي، قبل أيام.

قال ابن عمي في رسالته: “…لكن أروع الروايات لم تقرأينها بعد.. رواية تدعى الحب”، والإشراقة تكمن تحديدًا في تعليقه، حينما قال: “حب إيه أبو 15 سنه ده؟! بس على مين؟ إنتي ذكية ودماغك كبيرة وعارفة إن وقتك غالي زي روحك، ولسة مستنيكي حاجات حلوة كتيرة، تستاهل الصبر. أنا عندي ثقة إنك هتبقي حاجة مهمة يا منى”. لحظتها استحال ظلام الكون من حولنا غلاف كوكب صغير، لا يتسع إلا لنا، وأعلى رأس جدي أضاء قمر، لا يزال بريق  ضوئه يلازمني أينما ذهبت.

مسرح الشاطئ

حينها -بعكس هذه الأيام- كان معجبو الصيف كُثر، ولم أكن أكثر من أحد العاشقين له، المحبين لتلك اللمة العائلية الدافئة ليلاً، رغم خلو الجو من أي دفء، بفعل تيارات الهواء الباردة، التي آلفها وتألفني. كان جدي يصطحبني إلى الشاطئ في السادسة صباحًا، لننعم بصفحات البحر الوليدة قبل الزحام، يُمسكني من يدي بكف مرتعشة، ألمس رعشته حالاً بينما يستدعي عقلي الذكرى.

ما أن نفرغ من الكتابة على صفحات البحر الجديدة، حتى يدندن إحدى أغاني الست، هامسًا لي “حافظاها؟”، لأنضم إلى كنفه بينما أدندنها، ويفعل صوت غنائي العالي جدًا فعلته، والذي لم تفلح أي من محاولاتي لخفضه، مع الاحتفاظ بجودة الصوت كما هي، فيستحيل الشاطئ حولنا مسرحًا كبيرًا، أقف فيه ممسكةً في إحدى يدَي بـ”المايك”، بينما أتكئ بالأخرى على جدي، الذي يقطع أصوات المصفقين مرددًا “دي منى بنت أحمد ابني.. صوتها حلو قوي وشاطرة في المدرسة وبتطلع م الأوائل، وفوق ده كله قلبها رُق السيجارة وحِنينة” .

تنتهي الحفلة، فأتدثر بيده الحنون حول عنقي، بينما يتراقص الامتنان منتعلاً أعضائي الداخلية، كأني أحمله عن الأرض، بينما حقيقةً هو من يحملني عن اغترابي، يصلب التواءة في ظهري، خلفتها اتكاءة العزلة عليه، ونظل نتبادل نسيج الذكريات ذهابًا وإيابًا ورحيق أنفاسه يملؤني طمأنينة، ويزيد قربه جسدي الهزيل دفئًا على دفئه.

عشة راس البر

نعود لـ”الشقة”، التي كان يُسميها جدي “العِشة”، بينما يغط الجميع في نوم عميق، لنتبادل معهم الأدوار، ولا يعيدني من رحلة النوم سوى وقع الدفء في كفه، يحاول إيقاظي لتناول الغداء، بينما تزكم رائحة السمك المشوي -وافدة من السوق حالاً- أنفي، وصوت أمي متصاعدًا من المطبخ رفقة رائحة أرز الصيادية والسلطة الخضراء، بينما تتساءل “يا ترى حد افتكر و جاب سكينة معاه!”، ليجيبها جدي مازحًا: “أكيد منى جابتها، منى الوحيدة اللي مبتنساش حاجة”.


آخر إيام الصيفية

نعم يا جدي أصبت، كما فعلت دومًا.. منى لم تنسَ، ولا أظنها ستفعل، مهما جددت الرمال أقدام زوارها، واجتهد آخرون في الكتابة على صفحات البحر فجرًا. منى لن تنسى رحيق الذكريات معك، ولن يُجدد عبير جديدها مهما بلغ من عبق، ذلك الشعور بالحبور في رفقتك منتعلين معًا.

أهداب البحر تَركن لعين الرمال، وفضفضتها التي لم تودعها كنف غيرك، ولم تذكر للصيف طعمًا منذ ذلك الصيف، الذي ودعتها بعد أربعة أيام من العودة من إجازته.. فاللهم الرحمة والطمأنينة لروحك الدافئة أبدًا ما تجددت أنفاس الصيف واستفاق المصيّفون دون سابق إنذار على صوت “فيروز” يُعلنها “آخر إيام الصيفية”.

المقالة السابقةالأوله لينا والتانية علينا
المقالة القادمةفيلم “شوكة وسكينة”: هو إحنا بنتجوز ليه؟
كاتبة وصحفية مصرية

3 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا