نطل من ورق

1117

صبيحة يوم ذي طقس حار في يوليو، وجدت نفسي أستيقظ فجأة، لأتناول أحد الكتب من على رف المكتبة، وأجلس أتصفحه بنهم، كان الكتاب يروي قصة سيدة حزينة دائمًا، حتى اكتشفَت يومًا ما شيئًا، جعل الحزن ينتهي إلى الأبد من داخلها، واستطاعت فيما بعد أن تحيا متزنة، لا يشغلها أحد ولا تنتبه إلى صفعات الحياة، كما لو كانت تسير على خط واضح تمام الوضوح لها، ويجذبها مغناطيس عن أي سهو يجعلها تعود إلى الحزن الذي أكل الكثير من عمرها.

تصف السيدة البعيدة لحظات حزنها بمنتهى الدقة، حتى أنك تشك فيما بعد في حالة الاتساق التي صاحبت أيامها. سطور تدفعك دون وعي إلى تساؤلات عدة: أي حبوب تناولتها السيدة من أجل هذا التحول؟ هل يمكن أن يتحول الإنسان إلى شخص آخر، بل ويصحب هذا التحول نجاحًا ما؟ كيف أفعل ذلك؟ كيف أغير الأشياء التي تؤلمني؟ كيف أتحول إلى شخص آخر كما لو كنت قد ولدت من جديد؟

كانت صديقة لي قد نصحتني في لقاء مليء بالفضفضة بقراءة هذا الكتاب، وهي تحمل نبرة صوتية واثقة أنه سيغير العالم حولي. هممت بالقيام وأمسكت الكتاب، وأنا كلي حماس لمعادلتها في الحياة، ولكن ألم يقل الشاعر “لا تجربة تشبه أخرى”؟!

 

لا أدري ما يجعل سيدة مثلي تستيقظ لتنظم ما أفسدته ابنتها قبل النوم، ولديها الكثير من المهام المفروضة بشكل ضمني، والتي لا مفر من فعلها قبل أن تصحو طفلتها، لتجعل طقس القراءة هو أساس اليوم، بل تنهمك مع الكتاب الموضوع منذ شهور على الرف، منذ شرائه من بائع رصيف لا يمنح صاحب المجهود حقه، لكنه يمنحني حق القراءة.

في الغالب أحيانًا عقلك الباطن يحملك في نومك إلى ما تريد الهروب إليه، هل نحن بحاجة إلى الهروب بالفعل؟ من المؤكد نحتاج إلى هروب ما، ويا حبذا إذا كان هروبًا يساعدنا على مواجهة الأيام، وما تحمله إلينا من أشياء مزعجة تخالف محبتنا الأزلية للوجود. فطرة البحث عن الأشياء التي لا تؤلمنا، من الواضح أنني وجدت في الكتاب حالة من الهروب الجميل، أو حافزًا لإكمال اليوم، أو حلولاً لما لا أجد له حلاً.

الكنبة المقدسة

الورق أجمل ما يمكن أن تصادقه، هو لا يكذب عليك، يحملك إلى أناس عاشوا ورحلوا بعيدًا، ليسوا مضطرين إلى التجمل، بل في حاجة إلى لحظة صادقة على الورق، أتذكر والدي حين كان يجلسني رغمًا عني كل يوم حين يعود من عمله، ويشتري عن شغف واقتناع وحب وحماس جريدة الأهرام اليومية، كأي موظف حكومة مخلص، وبعد أن يبدل ملابسه ويتناول غداءه يأخذني من يدي لأجلس على كنبة غرفته المقدسة، التي لا يقترب منها أبناؤه الستة، إلا لطلب أو حاجة من الأب.

يقرأ الصفحة الأولى من الجريدة التقليدية، الحاوية لكل المفاهيم الصعبة على طفلة في الصف الخامس الابتدائي، وأحيانًا كان يطلب مني أن أقرأ بصوت عالٍ، ويصحح لي، دون محاولة للشرح رغم حاجتي له وقتها. لم أكن مثل ابنتي، أسأل في كل الأشياء وأحتاج إلى ردود فورية لها وإلا صرخت، كنت لا أسأل عن شيء، أتلقَّى ما يمنحني إياه أبي أو أمي في صمت، لا أعرف لمَ؟ كنت أخشى أبي حقًا ولكن لماذا لم أكن أجادل أمي في حالات عدم رضاي عن الأشياء؟

للأسف تلك الحالة ظلت تصاحبني حين كبرت لفترة، ولكن ظل الورق الذي أرشدني إليه أبي صديقي، الذي يحدثني حين أحتاج، أجالسه أحيانًا صامتة، بل يعطيني فرصة البوح والأسئلة الكثيرة التي خزَّنَتها الأيام، كلها استقبلها الورق عن طيب خاطر، لذا أنا مدينة لأبي بالكثير.

عصي الدمع

منحني أبي دون قصد شغف محبة الورق، وهي المحبة المولودة من النفور في البداية، وهي معادلة غريبة، هل تولد المحبة من الغصب؟ كان من الممكن أن أكره الورق والجرائد إلى الأبد، بعد تلك الحالة من الإجبار على القراءة، لكنه لم يحدث، بل أصبح القلم والورق رفيقَي عملي فيما بعد، حيث عملت بالصحافة.

منحني أبي أيضًا محبة أم كلثوم التي ظلت تردد “أراك عصي الدمع” في أذني منذ صغري، وحتى أصبحت أطلب من أبي أثناء المذاكرة أن يسلفني التسجيل، لأضع تلك الشرائط العتيقة الخاصة به، والتي دوَّن عليها بخطه الكبير أسماء أغانيها، ولأنه لم يشترِ شرائط أخرى، أو في الغالب كان يعتز بها، لأنه سجلها بنفسه من حفلاتها. كانت اختياراتي للاستماع لا تتجاوز أربعة شرائط ما بين أغاني “أراك عصي الدمع”، “دارت الأيام”، “بعيد عنك”، وكان مصروفي واهتمامي بالمذاكرة أسبابًا جعلتني لا أبحث عن المزيد. لماذا دائمًا لا أبحث عن المزيد؟ لا أعرف، كما لو أنها تيمه حياتي.

البيت القديم

ظل بيتنا القديم أيقونة أحلامي لفترة طويلة، بعدما انتقلنا منه، خصوصًا بعد ظرف شخصي تعرضت له السنوات الأخيرة، أحلامي جميعها ما بين غرفة نومي في منزلنا القديم، والصالون، وغرفة أبي الممنوعة عنا في الواقع، وغرفة البلكونة التي كانت منفذًا رائعًا للحياة بالنسبة لي، هل لأنه المنزل الذي لم أشعر فيه بأي خذلان؟ هل لأن الحياة الحقيقية لم تبدأ بعد فيه، رغم تركنا له وأنا في العشرينات؟ هل لأنه شهد أحلامي وأماني وسنوات لم أحمل فيها هما؟

من يكتبنا؟

تاريخنا، أحلامنا، أحداث حياتنا يحلوها ومرها.. يشغلني دائمًا فكرة أن من حق الجميع أن يجد من يكتبه، يكتبه كما رآه، كما عرفه، يتقن الحديث عنه، نحن جميعًا نطل من ورق، ورق يمنحنا الإنصاف الذي بحثنا عنه ولم نجده، أو حتى وجدناه وأردنا إخبار العالم به، في نفس الوقت من يضمن أن ما كُتب كان حقيقة من مروا من هنا؟ إذًا الأفضل أن لا نكتب، الكتابة تحتاج إلى رؤية جيدة لنا.

كيف تعرف أن هناك من يجيد رؤيتك؟ بل الأهم هل نجيد رؤية ذواتنا؟ هل ندري بمجاهل نفوسنا؟ وهل ننتظر أحدهم ليخبرنا كما لو أنه يأخذنا ويضعنا أمام مرآة؟ ها أنتم انظروا جيدًا إلى ما لا تعرفونه عن أنفسكم، وهل في تلك اللحظة سنشعر بتصالح مع ما نراه؟ كيف هم المتصالحون مع النفس؟ ألم أخبركم أن الورق مساحة كبيرة للحوار.

المهووس بالتذكر

في إحدى المرات شعرت بالكثير من الفضول حول حياة الكتاب الكبار، وبحثت عن أشياء مترجمة لبعضهم، وحوارات خاصة عن كيفية فعل الكتابة، وما هي رؤيتهم للكتابة وعمن يكتبون، وجدت أن هناك ملفات هائلة تترجم ما رأوه، ولأنني مغرمة بإدواردو غاليانو، أحد كتاب أمريكا اللاتنينة، والذي رآه البعض الضمير الحي الممثل للمنسيين، المهووس بالتذكر، والذي ينظر دائمًا إلى العالم من خلال البرك الصغيرة.

حين سأله أحدهم عن الكتابة في حوار قال: “اشعر أنك تكتب وأن إحدى عينيك على مجهر والأخرى على المنظار”، وبدا له تعريف الصحفي جيدًا لطموحاته، وما يود فعله وهو يكتب، مؤكدًا أنه يحاول النظر إلى أمور لم ينظر إليها أحد، رغم كونها تستحق النظر، تفاصيل صغيرة لأشخاص غير معروفين، العالم الصغير الذي هو جوهر عظمة الكون، يكتب من ثقب مفتاح، والقدرة على رؤية الأمور الكبيرة من خلال الأمور الصغيرة، وتأمل الكون منها.

وتبقى الكتابة من الأعماق دون قيود، والتعبير عما يخطر ببالك، من خلال مونولوج داخلي، أجمل ما يمكن أن يحدث على الورق، وهو ما يمنح القارئ شرف تجربة لم يعشها، صدق لحظة وحكي لا يعرف قيمته إلا من استطاع أن ينثر الحروف ويخطها ويخبرنا، إخبار العالم بالأمور الصغيرة، التي تراود العقول، ليس بالفعل الهين حتى نطل من الورق.

المقالة السابقةأفضل أماكن للمصيف في مصر في الاسكندرية والعين السخنة والساحل الشمالي ومرسي مطروح
المقالة القادمةحادي بادي
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا