حمول زائدة

1256

قبل نحو شهرين، كنت أجلس على نفس الكرسي الذي يتحفّظ عليّ الآن، بعد أن نجحت محاولاتي أخيرًا في الفرار من مهامي اليومية، كقط يلهث خلف فأر صغير لا يمل الهروب، بينما أحاول الفكاك من قبضة الكرسي المحكمة للإمساك بذيول الكلمات.

يسألني “حسن الألمعي”: هل أحصيتِ الأشياء، الأشخاص والأماكن التي تجعلكِ تعاني؟ فأجيبه: “نعم يا سيدي.. أعرفها كما يعرف المرء تفاصيل كَف يده، وأحصيها كما تُحصى أصابعه”، فيعود صوته وبنبرة أكثر حسمًا: “إذًا ماذا تنتظرين؟! غادريها فورًا!”.

ليُعقّد صوتي كسلسال دقيق من الفضة، تعقدت حلقاته، وصار التمزيق آخر فُرَصِه للبقاء ذا جدوى، أجيبه بصوت ممزق “مكنش حد غُلب”.

بعض المشاعر تولد هكذا شريدة، تظل عمرًا تتجول في خلجات نفسك، دون أن تهتدي إلى وجهة بعينها، تتسلل ببراعة، تراوغ بضراوة، وتجد دومًا سبيلاً سحريًا للتخفي، في كل مرة تحاول الإمساك بها، كتلك المشاعر التي تعتري الأشخاص والأماكن الذي سألني عنهم “الألمعي” قبل قليل.

هذه المشاعر قد تكون دافعك نحو الجنون أو الإعياء، بل وربما حتى المرض، فكم من ملازمي الفراش أعيتهم الوحدة، وحقنهم الخذلان بالسقم وأبلت أجسادهم مشاعر تأكل قاطنها في صمت، كالحزن واليأس والخوف، دون أن تقبل عقولهم  الاعتراف بالسبب ولو لمرة.

جيش الطفولة الواهي

وُلدت طفلة معقدة المزاج، ترضيني أشياء بسيطة وتزعجني أشياء أكثر منها بساطة، وفي منطقة ما، تقع بين الرضا والسخط، كان هناك شيء ما في، يجد في العزلة ضالته، يفضلها على الدوام من بين جميع الحاضرين، ظللت لسنوات إحدى رواد رحلة الوحدة المخلصين، الذين لا يغيرون مقاعدهم بجوار النافذة، على الرغم من عدم اكتراثهم بما يمر عبر الطريق.

كانت أحلامي في تلك الفترة أكثر بساطة من أن تكون صعبة المنال، وأكثر تعقيدًا من أن تكون لفتاة تحمل فقط أعوامًا عشرة، كنت أحلم أن يكون لي جيش من الأصدقاء، يحيطني من كل جهة، ولا تفلح الوحدة في اقتناصي من بين يده إلا بعودتي للمنزل، كانت أحلامي بارعة في شق طريقها نحو الواقع. فعبر سنوات دراستي المختلفة كنت الفتاة الأكثر شعبية بين أقرانها، لا أستطيع الآن أن أقف على سبب جلي لتلك الشعبية، لكن حينما أخبرك أنني قد ألتقى إحداهن الآن ولا أستبين إن كنت قد التقيتها يومًا أم لا؟ قد تستوعب ما أحاول أن أخبرك إياه من بين السطور.

لا شيء يشبهني

لديَّ قناعة بأنني حين فطرت على العزلة، كانت دوافعي للاستمرار هكذا، أكبر من مجرد فطرة، فالواقع من حولي لم يُحاول ولو لمرة -أؤكد لك ولو لمرة واحدة- أن يقتحم قوقعتي ويأخذ بيدي نحوه، فتولَّد لديَّ ذلك الشعور الفاتر في ليل بارد، أنني لا أشبه أحدًا ممن حولي، ولن أستطيع مهما حاولت أن ألمس شيئًا بجانبي لأجده مألوفًا، لا شيء.. لا أحد.

كانت محاولاتي المتطرفة في خلق عالم يتقاطع معي، ولو في مجرد أني من اخترته، ما هي إلا محاولات مرضية، لشخص يتداعى من شعور لا يميز حقيقته، رغم أنه في كل لحظة يعايشه بألم شديد، حتى اهتدى إلى أن تلك الصداقات العابرة قد تمثل سلوانًا أو ربما مُسكِّنًا لأعراض، تجعله يتحدث لمذكرات ورقية نهارًا كالمجانين، ويحتمي ليلاً بأحضان الروايات والكتب.

ظللت فترة طويلة من عمري لم أهتدِ لوسادة الفضفضة الدافئة، كل ما يحدث لي أو يعتمل بين تروس عقلي أو تذروه رياح عواطفي، يظل حبيسًا بداخلي حتى تنتهي صلاحيته، ولا يسأل عن جديده سوى “حافظة المذكرات” المتجمدة.

أكاد أسمع صوت تمتمتك الآن: “يا الله كم هن تعيسات! هؤلاء الفتيات اللواتي يولدن وحيدات”، ودعني لا أخفيك سرًا أنني كنت أغبط هؤلاء الوحيدات بالفطرة في أحيان كثيرة، فمحاولاتك للنجاة من الغرق في مكان لا يوجد به أحد غيرك، قد تكون أفضل حالاً من مثيلاتها، بينما يكتظ المحيط من حولك بأناس لن ينتبهوا لأمر غرقك، بينما يصم صوتك آذان الأمواج.

الهروب من الحقيقة

كوني واحدة من بين ست أخوات، لا يجعل من كل ما سبق وبعض ما أتحفظ عليه في ذاكرتي من مواقف وذكريات -لن تتسع المساحة لذكرها- أمرًا عاديًا، فقد تفرّست وجه الوحدة مرارًا وتكرارًا حتى صرت آلفه، وأشعر بغربة شديدة كلما طالعت إحدى أخواتي أو صديقاتي تتحدث.

كان من المفترض أن أكون ضمن الركب، نحتفي معًا حتى الثمالة، أو ربما حتى نبكي حد السقوط أرضًا، لكن الأمر الذي يدعو للسخرية حقًا هو أنني ظللت سنين أناطح تلك الحقيقة. أختبئ خلف ظلالها من مرآة في الجهة المقابلة، أعلم يقينًا أنني ما أن أمر من أمامها ستريني الحقيقة عارية، وفي كل مرة كنت أحاول حث رياح ما من حولي، عل تغييرًا قد يقع، كانت الأبواب توصد في وجهي، فأعيد المحاولة ثانية.

بينما أحاول نسيان أمر المقولة التي أحفظها جيدًا، للأديب نجيب محفوظ: “الباب الذي يُقفل في وجهك عمدًا، إياك أن تطرقه ثانيةً”، فقد طرقت الباب بلا كلل، حتى ضجر مني وركلني نحو الشارع، أصرخ في وجه مار متعجل، لا يهمه شيئًا من أمري.

بعد 29 عامًا، تمكنت فيها مخالب الاغتراب من روحي، كان مداد بوحي خلالها اليأس، بينما تكسو ملامحي ابتسامة اعتياد، لم أهتدِ إليه يومًا، حتى المرآة من أمامي لم تعتد الأمر أبدًا. حدثتها مرارًا وتكرارًا عن الشعلة التي بين أحشائي، التي جرى تشخيصها طبيًا بـ”القولون العصبي”، والتي أخبرني الطبيب بينما يطالعه عبر الشاشة “إنتي أصغر مريضة قولون عصبي أشوفها في حياتي”، تلك الشعلة التي تزداد احتراقًا على احتراقها في كل لحظة، أعايش فيها الوحدة الباردة، بينما ألمح الأرض من حولي تكتسي الدفء والألفة.

حبيسة الظنون

الحياة ليست عادلة.. هكذا يردد كثيرون وملء إيمانهم أنها حقًا كذلك، ربما هروبًا من مواجهة الحقائق وتفرس وجهها الشاحب، لكن ما أن تقف لتفكر في الأمر، ستجد الحياة عادلة بطريقة ما، فهي وإن كانت تدفع عجلة الأحداث نحو الدوران، ليست الفاعل ولن تكون أبدًا، وإن كنت من اختار أن يُقصِر الحياة على خيار فقط أو اثنين، بينما تعصب عينيك عن باقي الخيارات، وإن كنت ما اختار كهف الخوف من الظنون، كي تسجن فيه رغبتك في الخلاص، لا تأتِ بعد زمن من خذلانك لنفسك متحدثًا عن الحياة وانتفاء عدالتها، فبينما كانت الاختيارات أمامي كثيرة ومتشعبة، استبدلت رأسي بآخر لنعامة، ثم قمت بدفنه يتنفس، في الحيز ما بين موضع قدماي على الأرض.

معتقدة أن الغرق الأكيد والنجاة المشكوك في أمرها، هما خياراي الوحيدان، بينما كان خلاصي معلقًا في موجة جديدة، تأخر انتباهي لها كثيرًا، تحملني حيث أرض جديدة وأناس جدد مملوئين بالاهتمام والحب، وبدلاً من الاختباء خلف أسطول من الأصدقاء العابرين، كان لا بد أن أنتبه لوقع خطواتي على الرمال، بينما أمضي وحيدة وسط جيش من التماثيل الورقية.

وحينما أتساءل الآن عن السر وراء إيثاري الصمت، أجدني حبيسة ظنون الآخرين، مرددة: كيف سيراني الناس؟ وما حاجتي لأن يروني عارية إلى هذا الحد من الدفء والألفة؟ وفي حقيقة الأمر، لم يكن أي من هذا مهم، إذا كنت سأضع رأسي كل يوم على وسادة لم يصلها مني حرارة تذكر، بينما تتتجمد أوصالها كليةً بوقع الوحدة.

حمول زائدة

أنت لن تنتبه إلى حاجتك، لتقليص متعلقاتك وحقائبك المكتظة، إلا حينما تهم لحملها، ليخبرك عمودك الفقري أن الأمر في حاجة لمعجزة، حينها -وحينها فقط- ستبدأ في استبيان المهم من الأكثر أهمية، من غير المهم أساسًا، وفي لحظة ما بينما تقوم بذلك، ستتملكك ضحكة ساخرة من ذاتك.

لأجل ماذا كنت سأحمل تلك السترة الضيقة، التي لم تناسبني يومًا حتى بعمر العامين؟ وما حاجتي لتلك القبعة الحمقاء أصلاً؟ ما كل هذه الحمول الزائدة؟! وكيف كنت سأغفل عن ضم ذلك المعطف الوثير، الذي يضمني بين أحضانه، كما تضم الأم صغيرها ليلاً؟ يا إلهي! كيف نسيت في غمرة حمولي الزائدة أن أضم ذلك الفستان الأنيق، الذي بمجرد رؤيته تزداد روحي بهاء وألقًا؟! هكذا هو الأمر مع البشر، أقربهم منك وحتى أبعدهم عنك.

من قال إننا مطالبون بحمل أشخاص لا يهتمون لأمرنا؟! أثبتت المواقف أنهم لا يريدون بنا خيرًا، او حتى لا ينتبهون لدخان أرواحنا تحترق لأجلهم، أو ربما حتى جراء لخذلانهم، فقط لأن الفطرة أوجدتهم، أو أننا في لحظة اختيار جانبها الصواب، قمنا بضمهم إلى حقائب لم تتسع لهم، والأدهى أن يوسعك البرد ضربًا وتفشل كل محاولاتك لنيل الدفء، ثم تكتشف فجأة أنهم مصدر البرد المتصاعد عبر أنفاسك. البرد الذي لن تفلح آلاف المعاطف في تبديده، عملاً بمقولة جون ريثتك: “لن يفيدك المعطف عندما يأتِيك البرد من الداخل”.

بدائل صحية

بينما كنت أحطم أصنامي، وأعيد تشكيلي من الداخل كما أرتاح وأحب، كانت بقايا الصخور تلتهم ملامح وجهي التهامًا، كأنها أرادت لتلك الندوب المحفورة بقسوة أن تبقى لتخبرني: أنكِ مهما بلغت قوتك، ستظلين حبيسة ذا الوجه المشوّه. كانت تقصد أن تُسمعني ذلك بمكابرة، وكأني حين فعلت أيتها الصخور، كنت الجاني الوحيد!

وفي تلك الأثناء ارتفع صوتي مستعيرًا كلمات وليام تشابمان: “إذا كنت ترغب في الحفاظ على سلامتك العقلية، لا تدع نفسك تنشغل بتلك الأشياء التي لا يمكن التحكم بها أو تغييرها”. وهكذا يا صديقي لم أعِر الندوب اهتمامي، وللمرة الأولى لم أفكر في حلول للتستر، فقد قررت البحث عن بدائل صحية، بدلاً من أن أغطي تلك الندوب بمساحيق تجميلية مثلاً.

رحت أبحث في حياتي عن أشخاص وأشياء آلفها دون جهد، ولا أجد غضاضة في العناء من أجلها، لأني أعلم يقينًا أنها تمامًا مثلي على استعداد تام للموت لأجلي، والأهم من هذا وذاك، أنني أؤمن أنها تحبني كما أنا بلا مساحيق لتجميل الندوب، وتعرف حقيقتي كما أعرفها، بل أكثر.

اقرأ أيضُا: ما يفوق الوصف والاحتمال
المقالة السابقةالكاتبات والوحدة 1: ميّ زيادة: لعنة الجمال والموهبة
المقالة القادمةالكاتبات والوحدة 2: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

  1. مقال اكثر من رائع أستاذة منى و جعلنى اتذكر ما كتبتة يوما ما لاختى الحبيبة فى وصفها ، دعنى أسرد لك وصفاً وجيزاً لها ,هى .. تؤلمها الغربـة , تأكل رقعـة ألفتها شيئاً فشيئاً , تتقلص أراضى خضوعها , وحيدة فى جزيرتها و تحاصرها الأعين المتربصة و القلوب الخبيثة من جميع الإتجاهات , تتكاثر المناظير عليها و تتتالى العوائق فى طريقها و كأنها فى مسابقه عدو فى مضمار الحياة , تنسحب الكراسى من وليمتها و و ينقلب المبايعون, لا حيلة لها إلا ان تنزوى فى ركن غرفتها ضعيفة كورق ورد منزوع الأشواك و لا مخالب لها لتنتصر لنفسها , تسدل ستائرها و ترد بصمت فقاموسها لا يفقه كلمات للصد و بدموع كالندى على ورق الورد تشتكى , يؤثرها الحنان فهو كنزها الثمين و يفت قلبها الخذلان فهو كابوسها المفزع , مازالت تحمل براءة الطفولة , تتلهف و تضحك و تلهو غير آبهة بما يدور فى مدارات الكون فلها عالمها الخاص , أما اذا بكت فتحاول أن تهرب من إنكسار الطفلة الى شموخ الناضجة دافعة دمعتها من على خديها , تخاف الوحده و تترقب كالطفله اليد الحانية التى ترفعها من وحدتها و تطبطب على اوجاعها فتبرأ .متمردة على واقعها و راضية بفعل اللا شىء ,متقلبه المزاج فيوم ترنو من شرفة غرفتها فترى الكون بستان قد حاك الوانه بخيوط القمر, و يوم تراه صحراء جرداء فى ليل حالك قد هجره القمر و إعتزلته النجوم, هى السهل الممتنع”.
    و راق لى نهاية المقال كثيرا .
    “والأهم من هذا وذاك، أنني أؤمن أنها تحبني كما أنا بلا مساحيق لتجميل الندوب، وتعرف حقيقتي كما أعرفها، بل أكثر”

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا