تبدأ إلينا فيرانتي الجزء الأول من رباعية نابولي باختفاء “ليلا”، بطلتها الغريبة التي لا يمكن لنا على امتداد أربعة أجزاء أن نفهمها بشكل كامل، تختفي “ليلا” ماحية وجهها من الصور، تُخفي كل آثارها وكأنها لم توجد، اختفاء يقابله في نهاية الجزء الرابع استرجاعًا لذكرى تلاشي ابنتها الصغيرة من أمامها، كانت بجوارها في الشارع، وفجأة لم تكن. وما بين الاختفائين تتمحور حياة الكاتبة إيلينا فيرانتي، التي لا يعرفها أحد.
تشغل إلينا فيرانتي العالم كله بسبب هويتها المطموسة، لا أحد يعرفها، لا أحد يعرف إن كانت من الأصل رجلاً أم امرأة، كاتبًا واحدًا أو عدة كُتَّاب، هي كيان شبحي لا أثر له سوى رواياتها، والحقيقة أن كل هذا لا يهم، ما دامت فيرانتي قد قررت أن تحدد هويتها فقط ككاتبة، ولا شيء آخر.
ما يعنيني في كل حكاية إخفاء هوية إيلينا، هو ما ألتمسه طوال الوقت في كتاباتها، الشعور بالذنب الناتج عن اضطرابات علاقتَي البنوة والأمومة. والحقيقة أن أثر ذلك واضح بشكل كبير في رباعية نابولي، لكنه موجود ومكثف في رواية أخرى سبقت الرباعية، الابنة الغامضة أو الابنة الضائعة The LostDaughter، المنشورة عام 2008، والتي هي برأيي الجرعة المركزة ومفتاح البدء للرباعية، وهي أيضًا أقرب الروايات لهوية فيرانتي، حياتها وأفكارها ومشاعرها الصريحة التي لا يمكن للمجتمع أن يتقبلها.
أفكر.. هل أخفت إلينا هويتها لهذا السبب بالذات؟ كل الكلام المبالغ فيه من نوعية إخفاء الهوية الإنسانية للتركيز على النص، وعدم الرغبة في الشهرة والأضواء لا يقنعني. لا أحد يفضل الاختفاء في الظلام، المبدع يهمه بالتأكيد نصّه، لكنه في ذات الوقت، يحتاج إلى التقدير الحقيقي، إلى رؤية أثر كلماته في أعين من يقابلهم، إلى سماع كلمات الثناء. أعتقد أن السبب في اختباء إيلينا عن الناس، هو رغبتها في الانكشاف التام خلال الكتابة، الانكشاف الذي لا يجيزه المجتمع، ومعرفتها المسبقة أن الجميع سيعلمون بأنها تتحدث عن نفسها، عن حقيقة شعورها تجاه الأمومة، وهو التابو الأكبر الذي لا يمكن لأيّ أم التعبير عن حقيقة مشاعرها نحوه.
كتابات إلينا فيرانتي تتداعى كسيرة ذاتية، أحداث مترابطة تتشابه في كل رواياتها، وفي الرباعية نجد القصة الكاملة لطفلتين تكبران معًا في نابولي، ترتبط هويتيهما معًا وكأنهما كتلة واحدة من الدم واللحم والذاكرة والطاقة. تفاصيل الحياة والتنقل بين الأحداث السياسية والاجتماعية تجعل الأمر أكبر من مجرد رواية، وكأنه حقيقة الكاتبة وحياتها.
اقرأ أيضًا: الكاتبات والوحدة 1: ميّ زيادة: لعنة الجمال والموهبة
الأمومة حرير يخفي شوكًا
أصيبت طفلتي بدور إنفلونزا شديد، ارتفعت درجة حرارتها وأصيبت بسعال مستمر يمنعها من النوم. لمدة ثلاث ليال، كنت أجلس على السرير بزاوية قائمة، أسند رأسها إلى صدري ليظل مرتفعًا، وتتمكن من التنفس والنوم، وأظل أنا مستيقظة إلى الصباح، بعدها أبدأ في مزاولة عملي إلى الليل، ثم أكرر كل ما سبق.
في الليلة الثالثة شعرت بغصة تسكن حلقي، بكيت كثيرًا جدًا، واسترجعت كل اللحظات التي شعرت فيها أنني لم أعد أنا، أن هناك جزءًا مني انفصل وظل متمسكًا بي في نفس الوقت، أن ثمة حملاً ثقيلاً على كتفي أسير به وأنام به وأعيش به. تذكرت أول ثلاثة أشهر من الحمل، وكيف شعرت بحياد تام للكائن في بطني، ذعرت من عدم حبي له، شعور محايد تحول للكراهية في الأشهر الثلاثة التالية، وأنا غير قادرة على تناول الطعام أو النوم أو الحركة، وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة، لم أكن أفكر سوى في التخلص من هذا التكور الذي يثقلني، والحرقان الذي يشعل صدري. وعندما أنجبت طفلتي، وحملتها وأرضعتها، لم أشعر بشيء، كنت أنام لمدة دقيقتين كل ساعتين، أفتح جفنَي بأصابعي حتى لا ينغلقا وأنا أرضعها، فأنام وتختنق.
كنت أحملها وأسير في الصالة الضيقة جيئة وذهابًا، اعتادت أذناي البكاء، ويداي تعقيم الزجاجات وضبط الحليب، وعيناي على الدموع، وقلبي على الخفقان المستمر. كانت تكبر ويكبر شعوري الدائم بالذنب، بالذات بعد انفصالي عن أبيها. لم يعد لها سواي، ولم أعد حرة. كان واجبًا عليّ أن أنسى حياتي، أنسى أحلامي، أنسى الكتابة، وأن أظل بجوارها، أعيش حياتي كنصف أنثى، ونصف أم، ونصف كاتبة.
الأمومة والشعور بالذنب
تبدأ إيلينا فيرانتي روايتها ببطلتها، الأستاذة الجامعية والكاتبة ليدا، التي تسافر ابنتاها أخيرًا إلى والدهما في كندا لاستكمال دراستهما، فتشعر بالتحرر، شعرت بأنها ولدتهما للتو، وأنها الآن فقط حرة. اندهشت من عدم إحساسها بأي ألم للفراق، بل أن الالتزام اليومي بمهاتفتهما صار عبئًا بعد أيام، مكالمات مصطنعة لا شوق ولا عاطفة فيها.
من اللحظة الأولى لا أتمكن من فصل إلينا عن ليدا، أشعر أنني أقترب من معرفتها، أستنتج هويتها من تصرفات بطلتها. تسافر الأم إلى ساحل البحر الأيوني للاصطياف، وهناك تقابل عائلة من نابولي، تعيد إلى ذهنها تداعيات حياتها القديمة في نابولي مع أمها غير المتعلمة، شوقها للانطلاق والابتعاد وبدء حياة جديدة راقية كمثقفة، تراقب أمًا تلهو مع ابنتها على الشاطئ طوال اليوم بعروس قبيحة، وتتذكر زواجها المبكر وإنجابها لطفلتين، تتذكر إرهاقها واكتئابها، وشعورها أحيانًا بمشاعر سلبية تجاه طفلتيها، تتذكر الشعور بالذنب وكأنها لم تقسم جيناتها الحسنة بالتساوي عليهما، كانت تحزن إذا شعرت بأن ابنتها قبيحة أو غير اجتماعية أو أقل ذكاءً، تحزن إن شعرت بتمردهما، وانفصالهما، أو اقترابهما والتصاقهما بها.
ذات يوم، تتوه الطفلة الصغيرة على الشاطئ، فتتذكر ليدا يوم تاهت منها ابنتها في طفولتها، اختفت لدقائق مرت عليها كساعات، اختفاء الأطفال ذنب كبير يسيطر على الكاتبة نفسها، ويبدو أنه بالفعل قادم من تجربة شخصية حقيقية، إنه بالنسبة إليها نهاية الحياة، إثبات للفشل، وعدم الجدوى.
تتمكن ليدا من العثور على الطفلة، لكنها بينما تعيدها إلى أمها، تقرر الاحتفاظ بالعروسة القبيحة، تقرر أخذها إلى شقتها، والتطلع إليها وكأنها تجسِّد كل شيء، وكأنها تعيد إليها حياتها المفقودة، أو أنها تُشعِرها ببعض الطمأنينة تجاه ذنب كبير ينهش روحها، خصوصًا بعد اعترافها بأنها تركت طفلتيها لمدة ثلاث سنوات، أملاً في العثور على ذاتها.
كانت ليدا بعد إنجابها لطفلتها الثانية، تحلم باللحظة التي تتمكن فيها من التخلي عن كل شيء، وفعلتها بمجرد أن جاءتها الفرصة. غادرت بيتها وتخلت عن طفلتيها، لم تستجب لتوسلاتهما ولم يلن قلبها أمام دموعهما، سمحت لأبيهما بأخذهما إلى أمها في نابولي، البيئة التي هربت هي منها ذات يوم، ولم تفكر سوى في نفسها.
لثلاث سنوات، كانت تحاول أن تفعل ما أرادته، أن تكون نفسها. لكنها كانت تنهار، ثِقل في بطنها وغصة في القلب في كل مرة تسمع صوت طفل ينادي على أمه. أدركت أنها لم تكن قادرة على خلق أيّ شيء يخصها يمكن أن يضاهيهما، وعندما عادت لم يكن بسبب حبها لهما، ولكن حبًا لنفسها، لأنها كانت غير مجدية ويائسة دونهما.
انحلال الهوامش
تصف البطلة مشاعرها بأنها فقدان للبوصلة، تهشم، تلاشي، هذا الشعور بالتلاشي ظل موجودًا في كتابات إلينا فيرانتي بعد نشر هذه الرواية. في رباعية نابولي، استخدمت على لسان بطلتها ليلاً تعبير “انحلال الهوامش”، إنه هذا الشعور بالتلاشي والتهشم، تشعر بفقدان الحدود بينهما وبين محيطها، كأن العالم متفتت دون هوامش، عالم تشعر فيه الهوية الفردية بالتهديد من قبل الآخر، التهديد حتى من أفكار سامية كالبنوة والأمومة.
بفرضية أن هذه الروايات هي سيرة ذاتية أكثر درامية للكاتبة، يمكن أن نعلم عنها ما يلي: لا تخاف إلينا سوى من شيء واحد، أن تصغر، أن تعود مراهقة، لم تجد بنفسها إلا بعد مغادرتها لمدينتها الصغيرة وتركها لعائلتها، هي لا تحب سوى فرديتها، هذه كاتبة تحب الوحدة، ولا تعترف بالقواعد الثابتة كالحب الأمومي أو البنيوي. إلينا تدرك أن في كل عاطفة ثقوب، وأن الحياة اختيارات. قررت أن تكون أمًا، وكان عليها تحمل تبعات قرارها، كان عليها أن توقف أحلامها، وأن تتأخر عن ركبها، هي تحب أطفالها لأن عند لحظة الاختيار، لا شيء يمكن أن يضاهي حياة إنسان ضعيف يعتمد كليًا عليها، لكنها في ذات الوقت، تحاول التصريح بشكل واضح عن حقيقة مشاعرها، عن لحظات بؤسها وحقدها، عن لحظات ندمها وكراهيتها، عن اللحظات التي فكرت فيها أن طفلتها سخيفة ومزعجة، اللحظات التي ضربتها فيها بأطراف أصابعها على وجهها، أو رفضت اللعب معها، أو دفعتها خارج الغرفة، هذه اللحظات المؤلمة التي تمر بها كل أم، تثقل قلبها بسبب الحب الذي لا يمكن التحكم فيه، ولا تعافي إلا بالتخلص منها كتابةً.
تخفي إلينا هويتها لتعلمنا كيف نتصدى لخوفنا من عالم بلا حدود، تتعرض فيه هوية الإنسان إلى التلاشي، بدلاً من التفكير في الموت أو الاختفاء، مثل لينا في رباعية نابولي، تريدنا فيرانتي أن نتخلص من النزعة الفردية وفكرة الحدود. إذا تم إعادة تعريف هويتنا باستمرار من خلال الحوار مع الآخرين، لن تصبح الأسماء مهمة، إخفاء هويتها يسمح لها بالتطهر من مشاعرها المحرمة، من الانكشاف أمام العالم وأمام نفسها، من أن تعبر بشكل واضح عن الإنسان حقيقة بلا تزيين، أو خوف طبيعي، دون أن تخضع للرغبة الإنسانية في الثناء على النفس وإظهارها بأفضل شكل، أو تتعرض للأحكام.
إيلينا فيرانتي ضحت باسمها من أجل أن تمنحنا هذا، تمنحنا الشعور بالارتياح بأن ثمّة من يشعر مثلنا بهذه المشاعر، وأننا لسنا أشخاصًا سيئيين، لا تهم الأسماء مقابل تعاطفنا مع الآخرين، من أجل كسر التابوهات المسكوت عنها، والتخلص من الذنب الدائم، ذنب كوننا بشرًا.
اقرأ أيضًا: مشاعر الذنب التي تأكل الأمهات
وربما لم تجد من يحبها ويتقبلها كما هي فتتعلم منه كيف تحب الآخرين ..