كيف أنقذني الامتنان؟

1317

أكتب هذه التدوينة بعد منتصف الليل فجر اليوم الثاني لرمضان، أجلس على كنبة في مواجهة باب الغرفة، وتنعكس على الحائط المواجه للباب أضواء زينة رمضان التي علقتها منذ يومين على كل شيء تقريباً في صالة بيتنا، فوانيس وأهلة وشخصيات كرتونية، والكثير من النور، البيت صامت تماماً بعد أن نام طفلي وزوجي، لا يأتيني سوى صوت الراديو الموضوع فوق المكتبة والمضبوط على إذاعة القرآن الكريم، قبل أن أبدأ الكتابة أنهيت لف حلة محشي ورق عنب، وحشوت سمبوسك بخليط من الجبن والزعتر.

أكتب اليوم عن الامتنان، الامتنان الذي أنقذ حياتي عدة مرات من قبل، وأثق أنه سوف ينقذها مرات أخرى قادمة، يتأرجح أمامي سؤال، ما علاقة المشهد الذي وصفته في بداية حديثي بموضوع الامتنان؟ سوف أجيبك حالاً، هدوء البيت بعد منتصف الليل، حلة ورق العنب في الثلاجة، صوت إذاعة القرآن الكريم، والنور الذي يتلألأ خارج الغرفة، ليلة رمضانية بامتياز، كلها تفاصيل تدفئ قلبي، وتشعرني بامتنان لا حدود له، أمتن مرة لأنني أمتلك كل هذا، وأمتن ألف مرة لأنني أستطيع أن أراه وأن أقدره.

كنت دائماً شخصاً يجيد ملاحظة التفاصيل، ويستطيع الاحتفاء بالحياة، ومنذ سنوات علمتني صديقة لي تمرين الامتنان اليومي، علمتني صديقتي تلك أننا لا يجب فقط أن نمتن للنعم وللأشياء الكبيرة العظيمة التي تجعلنا نشعر بسعادة كبيرة، ولكننا يجب أن نمتن يومياً لكل الأشياء العادية، علمتني أن أمتن للملاءة النظيفة، ولزجاجة الماء البارد، ولحنفية الماء، للأشياء اليومية التي كففنا عن ملاحظتها منذ زمن بعيد وقررنا أنها هنا للأبد وأنها موجودة وأنها لا تستحق السعادة، رغم أنها في الحقيقة أكبر من أن تمر مرور الكرام، وأغلى من ألا نمتن بسببها لله، وأننا نمتلكها فقط لأن الله اختار أن يمنحها لنا دوناً عن سوانا، وأن هناك كثيرين يتمنون نعمة واحدة عادية جداً لا تلفت نظرنا أبداً كي يشعرون بسعادة غامرة، وأن هؤلاء الكثيرون حولنا دوماً ويشبهوننا تماماً، وربما كانوا نحن في لحظة ما.

بدايات رمضان موعد مناسب جداً للحديث عن الامتنان، أشعر بالامتنان في كل عام أنني قادرة على أن أبتهج بقدومه، أن أقف فوق كرسي عالٍ لأسحب الصندوق الكبير الذي أحتفظ فيه بزينة رمضان وأخرجها وأعلقها في أرجاء البيت، أن أغني “رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان”، ويختنق صوتي بالدموع فأبتسم وأنا أضع فوانيسي التي جمعتها على مر السنوات التي عرفت فيها زوجي، أشعر بالامتنان وأنا أصنع الكنافة والقطايف في نهار أول يوم رمضان، وأنا أدندن “وكنافة وقطايف بيضا يا ولاد والله سنتكم بيضا”، أمتن لسهراتي وحيدة أمام التليفزيون في انتظار موعد السحور، أمتن حتى لفعل الصلاة المختلف عن الأيام العادية وحرصي في الوضوء ألا أبتلع أي ماء لأنني صائمة، أمتن لتحضير معظم أكلات الإفطار ليلاً كي لا أقف في المطبخ في حر النهار، وأمتن لأنني أستطيع الامتنان لهذا كله.

الامتنان تمرين شاق، يختلف عن السعادة ويختلف عن الرضا، السعادة تضربك بقوة في قلبك فتشعر أنك تريد التقافز من فرط الانفعال، والرضا يجعلك تغمض عينيك في سكون وتشعر أنك تريد البكاء، أما الامتنان، الامتنان يدفئ قلبك ويجعلك تبتسم، يجعلك تشعر أنك في خضم موجة كونية تهدهدك، أنت مرتبط بكل شيء آخر في العالم وتشعر بالأمان، تشعر بالأمان لمجرد أن كوب قهوتك مضبوط جداً، أو لأنك استطعت أن تنقذ البيض المسلوق قبل أن يجف الماء ويشيط، أشياء بسيطة جداً ربما يراها الناس تافهة ولكنها تشعرك بالأمان، ولكنها لن تأتيك بسهولة، الأمر يتطلب جهداً وتمريناً حتى تستطيع أن تمارس فعل الامتنان بسهولة.

اقرأ أيضًا: الامتنان: سلاحي الذي حاربت به الاكتئاب

الامتنان أنقذني مراراً، لا تتخيل أن كوب القهوة الساخن أو آخر رغيف في الثلاجة أو أنبوبة الغاز الممتلئة كافيين لتشعر دوماً أن كل شيء على ما يرام، أحياناً تنقض عليك أحداث كبيرة لا تملك أن تدفعها عنك التفاصيل الصغيرة، ولكن تمرين نفسك على أن ترى تلك التفاصيل وكأنها استراحات محارب يمكنها أن تنقذك، إدراكك أن الحزن موجود وسيظل موجوداً ولن يهرب إلى أي مكان في أي وقت قريب، وأن مشكلاتك الكبيرة لن تحل من تلقاء نفسها، وأن أمراضك المزمنة لن تشفى، وأن ظروفك المادية لن تتغير في القريب العاجل، ولكنك يمكن أن تجلس في الشمس لدقائق تلتقط فيها أنفاسك، أنك يمكن أن تدفن رأسك في الوسادة التي ألبستها للتو غطاء مغسولاً ومعطراً، أنك يمكن أن تمد يديك خارج النافذة لتتلقف حبات المطر الطازج النازل من السماء لراحتيك مباشرة، أنك يمكن أن ترى هذه التفاصيل الصغيرة وأنك يمكن أن تتركها لتتغلغل داخلك، لتمس قلبك فيهدأ قليلاً ويعود لمحاربة طواحين الهواء، هذا هو الامتنان.

أمتلك مشكلاتي، ومخاوفي وهواجسي، ظروفي الصحية وعثراتي المادية وتعثراتي العملية، عيوبي الشخصية وتعقيداتي العائلية، أمتلك الكثير من الأشياء التي تحبطني وتحزنني وتكبلني، أشياء لا أملك إزاءها أي شيء، لا أمتلك حلاً ولا يمكنني أبداً أن أمتلك واحداً، ولكنني لا زلت أستطيع الاستمتاع، الامتنان وارتشاف الحياة لآخر قطرة فيها، ملء رئتي بهوائها حتى لو كان ملوثاً، استغراقي بالكلية في كل مشهد من مشاهدها ينقذني دوماً، يجعلني أكثر قدرة على تحمل كل ما سبق، يجعلني أكثر قوة في مواجهة كل شيء، يمنحني فرصاً يومية لالتقاط الأنفاس، ويجعلني متحكمة في عدة أشياء سعيدة بسيطة تعوض ولو قدراً ضئيلاً من فقدي للسيطرة على كل ما لا يمكنني السيطرة عليه.

الامتنان ساحر، يشبه بالضبط كوب ماء بارد بعد مشوار طويل في يوم قائظ، كوب الماء لم يغير حياتك ولكنه أنقذك حتماً من انهيار لحظي، هكذا الامتنان للتفاصيل الصغيرة، وهذه الأيام الكريمة القليلة فرصة عظيمة لا تتكرر سوى مرة واحدة فقط كل عام لممارسة الامتنان والتمرن عليه، مرن نفسك في كل يوم أن تمتن لثلاثة أشياء، رددها على أسماعك وأنت تغمض عينيك ليلاً قبل أن تنام، وتذكر فيفي عبد الشهيد، صديقتي المسيحية التي علمتني كل هذا والتي أمتن لها وأنا أستشعر نفحات رمضاني الهادئ الخاص بي وحدي.

اقرأ أيضًا: علمني الامتنان

المقالة السابقةلست وحدك: كيف نتعامل مع الحزن
المقالة القادمةالامتنان لله: شعور جديد يصف علاقتي بالحياة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا