الإقامة الجبرية

391

يومًا ما كان البيت مكتظًا بخمسة إخوة صغار، ووالد ووالدة دفعا عمرهما كله من أجلنا.. يومًا ما كنا نعيش في بيت كبير، صغير علينا.. لا تكاد تجد فيه مكانًا فارغًا للخلوة. كل شيء يبدو مثاليًا للغاية، نجتمع صباحًا للإفطار معًا ونلتقي بعد يوم مرهق على نفس المائدة مساءً للغداء، نفضي بهمومنا ومشكلاتنا، نساعد أبي في رفع المائدة، ويتجه إخوتي الثلاث الكبار لمذاكرتهم، أبحث عن شيء ألعب به، والرضيع في حضن أمي.

تقسو الحياة علينا في الغربة بعيدًا عن أهلنا بمرض أبي، فيتبعثر كل شيء مع شدة المرض، فليس لنا سوى الرجوع إلى موطننا الأصلي “مصر”. أتذكر رغم صغري لحظة دخولنا البيت لأول مرة.. الكل متشح بالسواد وغرفة أبي وأمي مظلمة.. أتساءل هل يمكني الدخول! لا ينتبه لصوتي الضعيف أحد.. الكل يبكي والجو مؤرق.

اللحظة التي جعلتني أكره هذا البلد

فتحت الباب في خِلسة فأصدر صوتًا لم أكن أتوقعه، لأجد أحد الواقفين يهرول مسرعًا نحوي ويخرجني من الغرفة، في نفس اللحظة التي رأيت فيها جثة أبي مغطاة من أخمص قدمه حتى رأسه.. تلك اللحظة التي حفرت في رأسي منذ السادسة من عمري وحتى الآن، أذكرها وكأنها بالأمس. تلك اللحظة التي جعلتني أكره هذا البلد كرهًا شديدًا، كأنها سبب وفاته، كأنه مات لما أستنشق هواءها.

لوعة الفراق

مرت الأيام واختبرت لوعة الفراق، واعتدت رؤية لباس أمي الأسود الذي لم يفارقها سنوات طوال.. تعثرت في بناء صداقات جديدة، حتى رزقني الله بهند ومنة بعد عدة سنوات من التخبط. حاولنا المحافظة على الترابط بيننا كأسرة قدر المستطاع، حتى كبرنا وصرنا كالأصدقاء.

وردة أمي الكريستال

أذكر يومًا أهدينا أمي وردة كريستال ذات خمسة أوراق برزوا منها. فلما تزوجت أختي الكبرى سقطت الوردة وانكسرت منها ورقة واحدة. لم يمر الكثير من الوقت حتى كنت أنا وأخواي الأكبران نستعد للزواج في وقت متقارب، يكاد يفصل بيننا بضعة أشهر، فسقطت ورقتان وانكسرتا أيضًا بمحض الصدفة بعد زواجهما. نظرت إلى الورقة الرابعة أضحك في خبث.. متى تنكسرين؟ لكنها لم تنكسر أبدًا… البيت أصبح هادئًا للغاية، أنا وأمي وأخي الصغير. ومع ذلك كنت أنتظر اللحظة التي يخرجان فيها من البيت لأختلي بنفسي.. أوهم نفسي بأني شاعرة ذات حس مرهف والخلوة أحد أهم أسباب إبداعي وفني.

علامات المرض

انعزلت في غرفتي فترات طويلة، ما أصاب أمي بنوبات غضب شديدة.. كانت تبحث فيها عن أخطاء لتقتحم عزلتي وتؤرق تدفق أفكاري.. عشنا في صراع لا يفصله سوى تدخل من إخوتي بضرورة الانسجام في البيت من جهتي وترك مساحة خصوصية من جهة أمي. لم أفهم أبدًا تلك الأشياء في أوانها.. أمي كانت بدأت تظهر عليها علامات المرض وكانت بحاجة إلى رفيق لها تفضي إليه ما بها.. كانت أختي تحجز دومًا هذا المقعد، فلم أتفهّم احتياج أمي بعد زواج أختي.

ماتت أمي

مرت السنون وازداد مرض أمي، مما استلزمني أن أترك غرفتي وأنتقل إلى غرفة أمي لمراعتها. ما زلت أشكر الله على هذه الفرصة التي أعطاني إياها، ولولاها ما عرفت أمي أبدًا. كانت فرصة لأتوقف عن البحث عن ذاتي وأنال رضا أمي قبل فوات الأوان.. فرصة لأرى الأمور عن قرب وأتفهّم معنى العطاء والتضحية والصبر على الابتلاء والرضا بالقدَر.. فرصة لأجرب حضن أمي الذي لم أجربه منذ وصلت مصر. ماتت أمي بعد صراع مع المرض.

ماتت لتتركني ضائعة بعد أن تعلقت بها تعلقًا شديدًا، بعد أن حكيت لها ما سترته عنها طوال عشرين عامًا مضت، بعد أن أدركت أنها الوحيدة التي تفهمت احتياجاتي دون أن تسخر مني أو تشعرني بأني بلهاء حتى وإن كنت، تركتني لأعلم أنها هي فقط التي أحبتني لذاتي ودون مقابل.

والأسوأ أنها تركتني في البيت وحدي مع أخ صغير، يقضى نهاره وليله -كما كنت أفعل سابقًا- في عزلة. كم بت أمقت الوحدة! أمقت أن أمر على غرفتها وأجدها مظلمة.. البيت حقًا أضحى موحشًا؛ صرت أنتهز الفرص لأجمع إخوتي في البيت فتضاء الأنوار ويكثر الصخب نضحك ونمرح، ويصبح البيت مناسبًا جدًا لعددنا، خصوصًا بعد وجود الأحفاد الذين يصرخون ويلعبون ويأخذون البيت ذهابًا وإيابًا منذ لحظة دخولهم حتى مرواحهم.

الإقامة الجبرية

وفي نهاية اليوم يعود كل شيء كما كان. البيت مظلم.. كبير جدًا عليّ وعلى أخي، وكأنه قصر كبير مخيف.. السكون يقتلني، لا أطيق التلفاز فليس له معنى دون صحبة إخوتي وتعليقاتهم. هذه الإقامة الجبرية التي كنت أحبها عندما كان كل شيء متاحًا، أصبحت أحد مصادر ألمي ووحدتي وخوفي المستمر. لا تبحثوا عن أشياء تنقصكم؛ كل شيء حولكم هو الأجمل ولكن لا تشعرون إلا بعد أن يضيع.

حين أسير في البيت وحدي أتحسس الظلام الدامس، حين يصدر صوت غير متوقع وألتفت مذعورة بحثًا عن مصدر الصوت. حين يدق جرس الباب لا أقوى على فتحه خوفًا من الغريب الطارق. حين يتأخر أخي في العودة إلى البيت وتدور برأسي كل الأفكار السوداوية الممكنة وتزول بوقع أقدامه، ثم أحمد الله أنه لم يُقتل، لم يُخطف، لم يُسرق، لم يُعتقل!

لست أمًا

حين يُطلب مني أن أقوم بدور الأم لأخ يصغرني بخمسة أعوام ولا أقوى على ذلك.. فيما أنا بحاجة إلى أم. حين أسأل نفسي من أنا! وتكون الإجابة: أنا الطفلة التي كتبت لأبيها الميت رسائل لتخبره عن كل من أساء إليها، ظنًا منها أنه يومًا ما سيعود لينتقم منهم جميعًا، أنا المراهقة التي هامت في حب أساتذتها لأنها لم تجد بين أقرانها من يحمل فكر أبيها، وأنا الشابة التي شاخت قبل أوانها.

الوحدة

يعجزني شعور الوحدة وأنا في منتصف العشرينيات من عمري.. في الحقيقة أنا لا أؤمن بالاستقلالية، ولا أرى أن حياة المرأة بدون رجل هي حياة مستقيمة، وأنتقد من يتصالحن مع أنفسهن في هذا الموضع بالذات، وأشعر أنه انتكاس في الفطرة الأنثوية التي خُلقنا بها. حين يتوقف سؤال من حولك على الماديات فقط.. “هل أنت على ما يرام؟” ويعني بها “هل أنت بحاجة إلى المال؟” مع أنه فعليًا هذا الشيء الوحيد الذي لا أتعرض فيه لأزمات.

معاناة

حين ينظرون إليك بعين الشفقة ولا يحركون ساكنًا ولا يحاولون تخفيف المعاناة.. حين لا يقدّرون ما بأيديهم وتتمنى لو تصفعهم صفعة تذكرة. تُنتقد أخطاؤنا لأننا يتامى.. وليس لأننا بشر! مدخل لكل كائن حي لزج كي يتدخل في أمورك الشخصية ليس بدافع المحبة، بل بدافع الفضول لكسر حواجز البيت الذي ظل صامدًا أمام الصدمات. مدخل لمعرفة أسرار هذا البيت الذي كان يومًا ما مليئًا بالضحكات. مدخل لمزيد من المعاناة حين تتصدى لهم فتظهر أنك أنت الوقح وليس هم بتدخلهم وفضولهم.

يتيمة وأرملة

هنا أشعر أني يتيمة.. بل أرملة! أو هو مزيج بين اليتم والترمل.. يصعب وصفه! أوصاف لا يمكن التغلب عليها بمفاهيم القرن الحديث من الصحة النفسية والتعافي وغيرها.. أوصاف حتى وإن رضينا بها تظل عالقة بنا للأبد. أو في الحقيقة نحن من نظل عالقين بها.. نشعر أنها تمثلنا ونخشى فقدها لأن فيها الحالة الأقرب إلينا.. نخشى أن تُمحى هذه الأوصاف ونفقد معها الحالة العالقين بها.. أخشى أن أظل وحيدة ولا يوجد وصف يعبر عن وحدتي فأتمسك بلفظ يتيمة.. أتعلق نفسيًا بلفظ أرملة.

الأمان

الوحدة، الغربة، عدم الأمان، الأرق، القلق. الحضن، السكينة، الابتسامة، راحة البال، القبلات، الحنان، الرحمة… إلخ. كلمات يفتقدها اليتيم في حياته اليومية.. ربما لم أكتب شيئًا غريبًا، ربما لم أضع حلًا لمشكلة، وربما لا يهتم أحد بما أكتب، لكنها طريقتي في تخفيف الألم.. الورقة والقلم صديقا الطفولة. وهذا جزء بسيط من إقامتي الجبرية في هذا البلد.

المقالة السابقةإنت مش حر.. ولا أنا كمان
المقالة القادمةعن كائن النهانيهو المثابر

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا