عن كائن النهانيهو المثابر

517

نهانيهو الحبيب، أو النُهنه، أو نيو نيو، أو باختصار نهى. أختي الحبيبة الجميلة، أكبر منّي بتلات سنين، بس في الدراسة بسنة واحدة، لأنها دخلت سنة سادسة وأنا لأ، وعوامل أخرى. هتتم في 16 أغسطس الحالي 30 سنة بحالها، وبهذه المناسبة المجيدة أهديها هذا المقال، علّه يرسم بسمة، أو يعترف بجميل مش هقدر أردّه أبدًا كما تستحق.

 

عزيزي النهانيهو..

لسه فاكرة لما جيتي من المدرسة بنتيجة أولى ثانوي، وحصلتي فيها على مجموع عالي؟ كنتي مقررة إنك هتدخلي علمي علوم. جيتي أعلنتي النتيجة والقرار لبابا وماما. بابا أخد الموضوع باستخفاف وقال لك:

هتدخلي علمي علوم ليه؟

عشان أطلع مهندسة يا بابا.

من قلة الرجالة هتدخلي إنتي هندسة؟ لا إنتي تدخلي تدبير منزلي زي عمتك. 

كإن عماتنا أو الكبار في عيلتنا عملوا كل ما يمكن عمله في الدنيا ومفاضلناش غير إننا نتبع خطاهم ونبقى نُسخ وقوالب منهم. عمتي كويسة في مجالها، لكن ليه أنا أطلع نسخة منها؟ فين “نهى” أو “رزان” وشخصيتها؟ وهتسيب إيه في الكون من علامات؟

 

أصرّيتي وعيطتي وزاد الاستسخاف والسخرية. دخلتي فعلًا علمي علوم. لسه فاكرة تفوقك في الفيزيا والراديو اللي عملتيه من بواقي عربيات بريموت كنترول مكسّرة ولوح أبلاكاش من النجار اللي جنب عيادة ماما. كنتي فرحانة بيه جدًا وأنا مستغرباه جدًا برضو، وجاب محطة وسمعناه كلنا سوا! كنتي هتشتركي في المعرض العلمي للمنطقة بس المُدرّسة تعبت ومرحتيش بناءً على كده. أنا فاكرة كويس أوي مُدرّس الرياضيات اللي كان بيديكي، ودرّس لأخونا الكبير قبل كده، وإزاي كان فخور بيكي. أستاذ محمد حافظ، لسه على علاقة طيبة بالأسرة رغم إننا مبنشوفوش تقريبًا. فاكرة كمان الأستاذ العجوز في المدرسة، بتاع الرياضيات برضو، وكان مرح جدًا وعلى خلق حسن، وكان بيشجعك وبيحب يجيبلك المسائل الصعبة من الكتاب، الخزعبلية اللي متتحلش، ويتحداكي بيها. كنتي -وما زلتي- أفضل نسخة من نفسك، ومتفوقة أوي، ما شاء الله.

 

إنتي اللي فتحتيلي سكك حاجات كتير، كوني الأخت الأصغر والأضعف والأقل قدرة على المجادلة ومحبّة تكبير الدماغ والاستسلام والاستكانة. أنا فاكرة في إعدادي، كان فيه رحلة لجيرولاند تقريبًا أو دريم بارك، مش متذكرة بدقة، بس كان فيها مراجيح وزحاليق ولازملها لبس رياضي أو كاجوال ومريح.

ماما عايزة أروح.

هتلبسي إيه؟

البلوزة… و… و… والبنطلون.

معندناش بنات تلبس بنطلون. 

أنا فاكرة عياطك في التليفون لبابا اللي كان مسافر ساعتها وإنتي بتتحايلي عليه يرضى يطلعك، وهو شرطه إنك تلبسي جيبة.

بس رجلي هتبان يا بابا لما أركب القطر اللي بيتشقلب ويلّف.

البسي تحتيها بنطلون طويل.

وفضل الجدل كده. مطلعتيش الرحلة دي، بس طلعتي اللي وراها، ولبستي اللي إنتي عايزاه، ولحد دلوقتي، الجدل مستمر حوالين حاجات كتير، بس بنقدر أنا وإنتي في أغلب الوقت نعمل اللي إحنا عايزينه.

 

سكة السفر.. إنتي فتحتي لي سكة السفر. بعد انتهاء كليتي على طول وشغلي في دار نشر عملاقة بتمص دم الموظفين فيها مصّ، قررت إني أسافر آخد الماجستير في مجال تاني بحبه أكتر من الترجمة.

ماما عايزة أسافر.

لأ معندناش بنات تسافر لوحدها، استني لما تتجوزي.

وسكتّ، معافرتش. إنتي جالك فرصة في مؤتمر كبير، محدش من الدول العربية باعت أي حد بينما دولة الاحتلال الصهيوني باعتة ناس يتكلموا في نفس الموضوع اللي هتتكلمي فيه. 

إزاي نسيبهم يا ماما يعملوا كده؟

خلاص أسافر معاكي.

ماما فضلت متمسكة بقرار السفر معاكي وإنتي متمسكة إنك لازم تسافري، فكانت النتيجة سفركم سوا. اتكلمتي في المؤتمر، واديتيهم بحث مصغّر ينشروه في دوريتهم، ومجلات اقتصادية عالمية اتكلمت عن بحثك ومشاركتك. حقيقي أنا فخورة بيكي جدًا، جدًا، حتى لو معبرتش عن كده في أحيان كتير.

 

بعد كده، سعيتي بدأب وجهد إنك تشتركي في برنامج تعليمي لرائدات الأعمال العربيات، بيتعمل في سان فرانسيسكو، وهتزوروا وادي السيليكون وشركات عملاقة زي جوجل وفيسبوك وهتاخدوا هناك دورات تدريبية. المرة دي ماما وافقت إنك تسافري لوحدك. عرفت أنا إن الطريق مفتوحلي أنا كمان إني أسافر، ودوّرت. لسه ملقيتش، بس ربنا كبير، أكيد في فترة هلاقي، إن شاء الله. 

 

نهى دلوقتي -ما شاء الله- مديرة مشروع ريادي بيوفر حضّانات لأصحاب الأعمال الناشئة، بيديهم مستشارين بيشرحوا للشباب إزاي يقيموا عمل ناجح ومتكامل، وبيوفرّلهم المساعدة والإرشاد. فخري بيكي حقيقي بيتزايد.

 

في فترة من الفترات، أصاب عقلي صمت رهيب. كان مفيش حد في البيت إلا أنا وإنتي، إحنا الاتنين مبنشتغلش لأننا مش لاقيين حد يقدر عقليتنا وقدراتنا تقدير صح ويعاملنا معاملة احترافية محترمة. أصيب عقلي بالخواء وكان فيه خرمة كبيرة أوي في روحي، بتشفط كل حاجة، تبلع كل حاجة، لدرجة إنها مخليتش مكان إلا للخوف. ساعديتني. كنتي بتشغليلي على اللاب توب بتاعك فيلم “الباب المفتوح” بعد ما قعدت أقرا الرواية تلات أيام ورا بعض مبعملش فيهم حاجة إلا الشعلقة، رجلي فوق وراسي تحت على السرير وفاتحة الرواية. شغلتيلي الفيلم تلات مرات ورا بعض، وعملتيلي أكل، وقعدتي تكلميني كتير جدًا. 

 

حاولتي تفرفشيني، جبتي أصحابي، كلمتيني، وأنا مكنتش بعمل حاجة إلا العياط المستمر، مكنتش بتكلم حتى. بفضل من ربنا ومساعدة الأدوية ووجودك في حياتي، أنقذتيني من أسوأ فترة مرت عليّ عمري كله. عمري ما هنسى رضاكي إني ألزقلك في المكتب والسرير من غير ما أقول حاجة أو أعمل حاجة. متونسة. بس كده. الونس يا عزيزتي، أحيانًا يكون كل ما يتطلبه الأمر، ليمرّ يومٌ ثقيل آخر، دون خسائر في الأرواح والممتلكات.

 

عزيزتي النُهنُه..

التلاتين كويسة. دي مش سن كبيرة زي ما الإعلام والقرايب بيصورولنا. أبدًا، دي بداية الحكمة والاتزان وحاجات تانية حلوة كتير. افتكري إن مارثا ستيوارت ما بدأتش برنامجها غير في الأربعين، وميريل ستريب عندها دلوقتي ييجي 65 سنة ولسه بتقدم أبدع أدوارها. السن مش شرط لنجاح أو فشل، إحنا اللي بنصنع ده. عقلك وقراراتك ووجهة نظرك للأمور هي اللي بتقرر نجاحنا أو فشلنا. بصي للموضوع من وجهة نظر “الشباب الدائم للألوان” زي ما بتقول رحاب بسّام: عمرك شفتي لون بيعجّز ويكبر في السن؟ خليكي لون، فليكن التركواز مثلًا أو الفوشيا الفاتح. سيبي علامات من اللون ده على كل حاجة بتعمليها، وابتهجي وأبهجي، انبسطي وحبي واتحبي واملي الأرض نور. اسعي للدراسة والعمل ونشر المعرفة، اكتبي كتير، ومتبطليش تكلمي ربنا. والأهم، خليكي حلوة زي ما إنتي، مفيش حد ولا حاجة تكسرك. صدّقي نفسك تتصدقي.

 

كل سنة وإنتي منورة قلوبنا وحياتنا بدأبك ومثابرتك المستمرة، آمين!

المقالة السابقةالإقامة الجبرية
المقالة القادمةفي سوْرة غضب أو حب

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا