أنا واحدة من آلاف الفتيات اللاتي يعانين من أجسادهن الممتلئة، التي لا تعكس شيئًا من تلك الروح التي تسكنه. أنا واحدة من هؤلاء اللائي أصابهن الصمم إزاء صرخات أجسادهن، فكانت العواقب وخيمة. لم أفهم قط معنى كلمة أن يتمرد عليك جسدك، إلا عندما بات يفصلني عن عامي الثلاثين، فقط عام ونصف. تأخرت كثيرًا وندمت أكثر.
دعوني أحدثكم عن تجربتي المريرة علّي أنقذ روحًا قبل أن تعاني مثلي
كنت طفلة صغيرة ضعيفة، ولدت هكذا هزيلة، أتردد على المستشفيات من حين لآخر، وتعاني والدتي من ارتفاع حرارتي باستمرار والتهاب حلقي. وأتهرَّب من الطعام، وكأي طفل لا يسد رمقي سوى الحلوى، لذلك لم أُمنَع منها لأنها الشيء الوحيد الذي قبلته معدتي. وصلت لسن المراهقة بحب بالغ لكل أنواع الحلوى الممكنة؛ ازداد وزني عن أقراني، وعلى أثره بدأت التعليقات السخيفة من الأهل والأصدقاء والأقارب بضرورة الاحتشام في الملبس، حُرِمت من التنانير القصيرة والملابس الضيقة وكل ما هو لافت للنظر، لأني كنت أكبر حجمًا من أقراني. أصبحت أتعامل مع عورة جسدي على أنها شيء يجب إخفاؤه لأنه كبير الحجم، لا لحرمانيته.
تأتي الخطوة الأكثر منطقية بالنسبة لي، وهي الحجاب، كنت أحب حجابي جدًا وأعتبره خطوة إيجابية، كان يمكن أن أكتفي بالزي المحتشم، ولكني قررت ارتداء العباءات الفضفاضة، كنت أحبها لأني أستطيع أن أخفي جسمي الكبير تحته دون خوف، ودون أن يرمقني أحدهم بأي نظرة سخيفة.
تلك الفترة التي أهملت فيها جسدي كثيرًا، كنت أعلم أني مهما ازداد وزني فتلك العباءة قادرة على إخفائه. كانت هذه الفترة هي أول صرخة لم أسمعها لجسدي، اعترض جسدي تمامًا على سوء معاملته وبدأ ينزف بشكل مستمر لا ينقطع، لا في حيض ولا في غيره. بعد أن أجمع الأطباء جميعًا على أن السبب هو زيادة الوزن، قررت أن أتجاهل السبب وأتعايش مع العرض.
في فترة الجامعة لم أكن إحدى هؤلاء الفتيات الهادئات. كنت أتنقل في الكلية كفراشة تلهو من هنا إلى هناك، كثيرة النشاط متحمسة طوال الوقت، وأردت أن أكف عن الاستتار خلف العباءة وأرتدي الفساتين والتنانير التي أحبها جدًا وأشعر بأنوثتي فيها، خصوصًا بعد أن تعرّضت لكثير من المواقف المحرجة والكلمات التي قد تصيب أي فتاة في مثل عمري باكتئاب حاد، من مثل “عدي يا مدام، إيه؟ قطر ماشي؟ اركن يا ونش…” وغيرها الكثير، مما عملت جاهدة على نسياته وتخطيه.
ولاختلاف أماكن الأنشطة في الجامعة التي تتطلب الكثير من الصعود والهبوط، صرخ جسدي الصرخة الثانية، عندما لم يستطع أخذ أنفاسه بشكل منتظم إثر عملية الصعود، وفقدت الوعي. لن أحكي عن هذا الموقف، تدركون جيدًا كم الإحراج في مثل هذه المواقف. هنا فقط قررت أن أستجيب بشكل يناسب الفترة، وبدأت ممارسة الرياضة مرتين في الأسبوع، لمجرد تحسين أدائي، لم أكن أنوى فقدان الوزن على الإطلاق، حيث كان هذا الأمر فكرة بعيدة المنال بعد محاولات عديدة مع الأطباء المختصين باءت كلها بالفشل.
انتقلت من الحياة العلمية إلى الحياة العملية، وأنا عبارة عن كتلة من الحيوية والنشاط، هذا النشاط الذي لا يتناسب إطلاقًا مع الجسد الثقيل الكبير الحجم الذي اعتدت عدم النظر إليه وتجاهله تمامًا، حتى أكمل حياتي دون أن أنغص عليّ عيشتي. ازدادت المسؤولية شيئًا فشيئًا، وجدتني أعمل طوال الوقت ولا أترك يومًا واحدًا للراحة، حتى صرخ جسدي الصرخة الثالثة، ولكنها هذي المرة كانت مؤلمة جدًا، لم تعد فقرات ظهري تحتمل هذا المجهود وهي تحمل كل هذا الوزن على كاهلها، فتمردت وتركتني طريحة الفراش لا أقوى على عمل شيء بمفردي. مررت بأسوأ أيام حياتي، حتى أدركت حينها أني كان عليّ أن أستمع لذاك الجسد الذي عانى كثيرًا من سوء المعاملة.
فقدت حينها بعضًا من وزني، واحترمت جسدي بإعطائه يومًا للعطلة والراحة. ليس هذا فقط، أصبحت أفهم ماذا يريد إخباري، حين أشعر بالصداع أعلم أنه يذكرني بشرب الماء أو نيل قسط من الراحة، وحين تتقلص معدتي فهي بحاجة إلى طعام صحي بعيدًا عن الوجبات السريعة، وحين يرتعش فإنه بحاجة إلى العزلة وحمام دافئ وقليل من التدليل والاهتمام. حتى البثور التي تظهر فجأة أصبحت أفهم معناها من مكان ظهورها، سواء كان خللاً هرمونيًا أو ضغطًا مرتفعًا أو حتى بحاجة إلى شرب الماء. وتلك الهالات السوداء التي تعترض اعتراضًا مباشرًا على السهر وكثرة العمل، أصبحت أستمع لكل ذلك، بل أصغي وأعالج على الفور.
وهناك الكثير من العلامات والإشارات التي يرسلها لي طوال الوقت، وتعلمت أن أستمع إليه بحرص. لا زال خلاف واحد بيننا، ولكني وعدته أن أجد حلاً جذريًا له، وعقدنا هدنة معًا على أن أمارس الرياضة بشكل يومي، على أن يسامحني على وزني الزائد لبرهة معينة. للخلاصة.. هذا الجسد لا يتمرد من فراغ؛ ارتفاع الضغط أو انخفاضه وتغير نسبة السكر وسرعة خفقان القلب والإغماء والغثيان ما هي إلا مؤشرات لسوء المعاملة الجسدية أو النفسية. أقول هذا الكلام لنفسي أولاً لأني أكثر الناس حاجة إليه. علينا أن نعامل أنفسنا برفق؛ هذا العالم قاسٍ جدًا ولن يقف بجانبنا أحد سوانا.