في نهاية مسرحية “الهمجي” للمؤلف لينين الرملي، يعود “آدم” من الخارج بعد إجرائه لعملية جراحية في المخ، تهدف إلى جعله إنسانًا أفضل، بعد أن خذل الملائكة في دفاعها عنه طوال المسرحية أمام الشياطين. لكنه يعود في هيئة أقرب إلى الإنسان الآلي، مشية متخشبة، نظرات جامدة، كلمات محدودة، تصرفات آلية، بدا وكأنه من أجل أن يصبح إنسانًا أفضل، تقبل التخلي عن مشاعره.
هل مشاعري هي سبب تعاستي؟ أفكر وأنا أتقلب على السرير من فرط الأرق. جربت كل شيء، الأعشاب المهدئة، الحمام الدافئ، القراءة ومشاهدة الأفلام الوثائقية، وصولاً إلى المنومات، بلا فائدة، بمجرد أن أضع رأسي على المخدة، يبدأ عقلي في التحوّل إلى شاشة عرض، تتوالى عليها الذكريات المقلقة، بدءًا من مُدرسة اللغة العربية التي طلبت مني إعادة كتابة الدرس في دقيقتين قبل أن تنتهي الحصة، لأن “خطي وحش”، وصولاً إلى الارتباك الذي تحدثه في عاطفتي تجاه كل من أحببتهم، حبي الذي يقابل بتجاهل، وحدتي الدائمة، الشعور بعدم الاستحقاق.
انتباه
يضطرب قلبي في خفقانه كل ليلة قبل أن أغرق في النوم، ينتابني قلق عارم لا أعرف مصدره، أنهض من فراشي، أمر على أهل بيتي، أتابع تنفسهم في الظلام، أعيد التأكد من وضع محبس الغاز، باب الشقة، أتصفح بريدي الإلكتروني بحثًا عن مهمة ما في العمل لم أنتبه لها، أتصفح فيسبوك لأطمئن على الأصدقاء، أقرأ جملة تستوقفني فأفكر في المعنى وراءها، تمر عيني على خبر يبشر بمستقبل أكثر تعاسة فيزداد توتري، أحاول العودة إلى النوم فلا أستطيع، أبدو غارقة فيه لكني أشعر بالموجودات كلها من حولي، أشعر بالأصوات، أشعر بالظلام، أشعر بتقلب ابنتي بجواري، أشعر بالحركة في الشارع، نصف نائمة، نصف مستيقظة، والنتيجة، مزاج متكدر طيلة اليوم التالي، جسم متكسر، والمزيد من القلق والتوتر.
نوبة فزع
أسمع دقات قلبي وكأنها تدوي في أذني، “خفقان”، أسميه وأصفه لأمي وشقيقتي، خفقان شديد يؤلم صدري، لا أستطيع التنفس أو الكلام أو النوم، شعرت أن قلبي سيقفز من حلقي كما يقولون في الكتب، نهضت من السرير وجلست في الصالة المظلمة أنتظر الموت، لم أرد أن أموت بجوار ابنتي وهي نائمة، لم أرد أن تستيقظ لتجدني جثة باردة بجوارها، الفكرة زادت أكثر من خفقان قلبي، فأغمضت عيني واستسلمت.
في الصباح قررت عمل رسم قلب والكشف لدى الطبيب، لم يخف ارتباكه عند فحصه لرسم القلب، بدا غير منتظم، وكأن هناك “دقة ساقطة”. قلبي يفوّت دقة، ينساها، يستغرق مثلي في التفكير والقلق، فينسى، ويؤلمني. عندما قرر الطبيب استكمال الفحص بعمل إيكو، شعرت بالخوف، طلب مني أن أهدأ، أن أفكر في شيء آخر، كان تنفسي سريعًا ووجهي مصفرًا، تجمدت على سرير الفحص، بدا وكأنني أهوى للأسفل، ورغم أن الإيكو كان جيدًا، فإنني لم أتخلص من الخوف.
أخبرني الطبيب أن هذه ربما نوبة فزع، وطلب مني مراجعة طبيبي النفسي بعدما علم بتاريخي المرضي مع الاكتئاب، كان تشخيصه أقرب للمنطق، وعدت بعد انقطاع سنتين للطبيب النفسي الذي أكد هذا التشخيص.
توصيات الطبيب
الكثير من تمارين التنفس، الاستعانة بالكتابة والموسيقى والخيال، محاولات تشويش التفكير، الانشغال بعشرات الأشياء، التمشيات الطويلة، ممارسة الرياضة، وبعض الحيل التي عليّ اللجوء إليها حال إصابتي بنوبة فزع:
تحديد خمسة أشياء يمكن رؤيتها
شباك غرفتي: مغلق دائمًا، حتى لو فتحته لن أرى شيئًا، يذكرني فقط بأحلامي المستحيلة في بيت بشرفة كبيرة تطل على أفق مفتوح، شباك غرفتي يطل على بناية قبيحة بلون شاحب، كلما وقع نظري عليها، تجرني أفكاري إلى تخيل لون الموت، لأن لونه ليس أسود كما يعتقد البعض، الموت لونه مثل هذه البناية، بيج شاحب ملطع ببقع الزمن، شباك غرفتي يطل على الموت، ونوبة الفزع تزداد قوة.
التريد ميل: تحولت إلى شماعة للملابس، ورف إضافي لألعاب ابنتي، بدا لي أنها ستصدر صوتًا ودخانًا لو أعدت تشغيلها، التريد ميل تذكرني بحماسي الكبير بعد الطلاق في النزول بوزني، في العرق والجهد والركض والغضب والتحدي، تذكرني بالألم الشديد الذي يعتصر قلبي، من يومها وأنا لا أتوقف عن الركض.
مرآة: أرى التجاعيد تزداد حول عيني، جلدي مكرمش، والثنيات كالأخاديد على الجانبين، أحاول شد الجلد بأصابعي فينثني أكثر، الهالات السوداء تتسع، لتبلعني وتبتلع المرأة.
الكتب: ملقاة في كل مكان، لا بد أنني سأموت قبل قراءتها كلها، يزداد فزعي، أمرر أصابعي على العناوين، أنفض الغبار عن الأغلفة، أنتقي خمسة كتب وأضعها بجواري، وأعرف أنني لن أقرأها أبدًا.
الملابس في الدولاب: كثيرة، ولا أحد لاستعراضها أمامه، كل مرة أغادر المنزل، أرتدي الجينز والتيشيرت، وأفكر أنني على كل الأحوال خفية، ربما كان من الأفضل لو فعلت مثل مارك زوكربيرج، وامتلكت 100 نسخة من تيشيرت رمادي موحد.
تحديد أربعة أشياء يمكن لمسها
اللاب توب: آثار أصابعي واضحة على لوحة المفاتيح، آلاف النقرات على مر سنين. صاحبني في كل مكان ذهبت إليه، تحمل ضيقي وحزني وكلماتي الثقيلة، تحمل غضبي وتعنيفي وضربات قبضتي، يحمل جزءًا من روحي، امتزجت نقراتي عليه مع دقات قلبي فخففت حدتها قليلاً.
صورة: على الكومودينو برواز يضمني وطفلتي للأبد، انكسر زجاجه ذات يوم وظلت الصورة بلا حافظ، بدت هكذا أجمل وأقرب، ملمس الورق أحن من ملمس الزجاج، أمرر أصابعي على ابتسامتها، وأبتسم.
مج برتقالي: دافئ من أثر بقايا شاي ساخن، شاي يعده لي أبي لأنه يعرف أنني لا أستطيع شربه سوى من يديه، أسأله عن سر حلاوة الشاي الذي يعده فيبتسم، الحب.. الحب سر حلاوة شاي أبي.
قلم: مكسور وفارغ، ألصقته بالسالوتيب الشفاف من المنتصف، لا أستطيع التخلي عنه، كان جزءًا من ذاكرتي التي تتجسد في الأشياء الصغيرة الجميلة، لا يقل جمالها حتى لو انتهى أثرها، وانتهى معناها.
تحديد ثلاثة أشياء يمكنك سماعها
صوت المكيّف: يهدر بصوت خافت، يهدئني قليلاً، أخاف أن يتوقف فجأة كما فعل منذ أسابيع ويتركني غارقة في الحر والعرق، لكني أتذكر أن هذا لم يدم طويلاً، أصلحه الفني في اليوم التالي، وقفت أمامه، أعلق بصري عليه، أنتظر أن يبدأ في العمل، وأشعر من جديد بالهواء البارد، ربما أفلت قلبي دقته الناقصة مرة، لكن بمجرد أن سمعت صوته يهدر من جديد، حتى استعادها.
صوت هاتف ابنتي: في خلفية عقلي دائمًا، وأنا أكتب، وأنا أعمل، وأنا أتحدث في الهاتف، أحيانًا أمل، أطالبها بإغلاقه، بترك الهاتف والجلوس هادئة مكانها، ثم يربكني الصمت، يربكني تجمد الطفلة، ألقي بكل المحاذير جانبًا، وأسمح لها بساعة إضافية.
صوت التليفزيون: قادم من الصالة، تترات مسلسلات وحوارات أفلام ونقاشات برامج، تشتتني، لا أتمكن من مواصلة الكتابة، لكني أستعيد مشهد أمي جالسة أمام التليفزيون، ترتدي نظارتها وتشرب قهوتها، فأكتفي بأمان وجودها.
تحديد شيئين يمكنك شمهما
رائحة ابنتي: أحضنها وأقبلها في وجنتيها الناعمتين، رائحتها كما هي منذ ولدتها، مزيج فريد من رائحة الحليب والزهور والعشب المندي والخبيز، رائحة دافئة تربت على قلبي.
رائحة السجادة الجديدة: رائحة العيد، والبيت الجديد، رائحة أحلامي القادمة، وآمالي التي لن تتوقف.
تحديد شعور واحد تشعرين به
الرغبة في البكاء: التخلص من القلق بكاءً. تتسرب أفكاري القاسية مع الدموع؛ فشلي، إحباطاتي، خذلاني. تتسرب الوجوه التي كانت عزيزة، تتسرب الكلمات، يتسرب الخوف والفتور والتجاهل. شهقات البكاء تمدني بأكسجين نقي، هواء نظيف يجدد رئتي، مشاعر جديدة تعيد لي إنسانيتي، حب جديد يغلف قلبي، يعوض دقاته الناقصة، يعوضني.
*العنوان من قصيدة “ضد من؟” للشاعر “أمل دنقل”.
اقرأ أيضًا: عن تجربة شخصية: 5 طرق لمغافلة القلق تجعله ضيفًا خفيفًا