عن الجائحة والبحث عن السلام الداخلي

1107

مقدمة لا بأس بها

منذ أيام بينما أتصفح فيسبوك بلا هدى طالعني منشور مجهول المصدر. المنشور يحدد بدقة الوقت الذي ستنتهي فيه الجائحة في مصر وفي بعض دول العالم. لا أعلم من أين أتى صاحب المنشور المجهول بالثقة التي تجعله يحدد أمرًا مثل هذا بتلك الدقة. لكنه على كل حال أكد أن هذا سوف يتم في التاسع عشر من يوليو القادم!

بتاريخ كتابتي للمقال وطبقًا لصاحب المنشور لم يتبقَ أمامي سوى تسعة وأربعين يومًا أقضيها في العزل. هل أفرح وأعد قائمة بكل تلك الأنشطة التي أريد ممارستها خارج المنزل؟! أستعد لسفريات طويلة؟ أجهز حفلات بصحبة الأصدقاء؟ مشاوير عليَّ القيام بها؟ أعمال عليَّ تسويتها؟

أقول الحق. لقد صدمت. لقد اكتشفت ببساطة أنني أحببت فترة العزل المجتمعي هذه ولا أريد لها أن تنتهي الآن.

في معنى الجائحة

يقولون إنها الجائحة. صنفتها منظمة الصحة العالمية بهذا التصنيف. أردد الكلمة أكثر من مرة. جائحة.. جائحة.. جائحة. أترك لساني يرددها بهدوء وكأنما أتذوق طعم الكلمة. أبحث في جذرها اللغوي. جاح.. يجتاج.. اجتياحًا فهو جائح وهي جائحة. وكأنما تصنيفها وترديدها والبحث عن أصول الكلمة جعلني أقف لبرهة قصيرة حتى أستوعب معناها. وأدرك خطورة الاجتياح الذي يتعرض له الجنس البشري من فيروس لا يرى بالعين المجردة.

وافق يوم إعلان الجائحة من قبل منظمة الصحة العالمية اليوم الذي قررت فيه البقاء في المنزل وممارسة العزل المجتمعي. في البداية كان الأمر مربكًا جدًا. عشرات المكالمات لتأجيل بعض الأعمال لأجل غير مسمى أو للاعتذار عن جلسات التصوير. عشرات الرسائل الإلكترونية للتكليف بمقالات جديدة عن الوضع الراهن. انتهى زمن العمل بالمكاتب والشركات ومواقع التصوير والاستوديوهات كما يبدو، وأصبح العمل المنزلي هو البديل الوحيد المتاح.

استمر ترتيب هذا الأمر لبضعة أيام ثم بدأت وتيرة العمل تهدأ وتستقر. في البداية استمتعت تمامًا بالفراغ. أنام وقتما أحب. أستيقظ متى يحلو لي. لا مواعيد حضور بالمكتب ولا مواعيد تصوير في الاستوديو ولا تحضيرات مرهقة ولا محاولات عصيبة لإرضاء العملاء. أعمل أو لا أعمل. أكتب أو لا أكتب. وكأنها إجازة مستمرة وممتدة بشكل لا نهائي. استمر هذا الأمر بضعة أيام حتى سيطر الملل على كل كياني. أصبح الأمر جنونيًا. إجازة منزلية إجبارية لامرأة عاملة منذ ما يزيد عن عشر سنوات. ماذا أفعل بكل هذا الوقت؟! أنظف المنزل؟ أشاهد أفلامًا هامة؟ أدرس شيئًا جديدًا؟ أقرأ في الفلسفة والتاريخ؟ أعود للتدوين في صفحة وصفات الطبخ الخاصة بي وأفعِّل قناتي على اليوتيوب؟

أتصفح فيسبوك فأجد قوائم لا تنتهي بكل الأشياء التي يجب أن أفعلها في فترة العزل المنزلي. مئات المنشورات التي ترشح كتبًا وأفلامًا ومقررات دراسية. أختار فيلمًا له تصنيف عالٍ أجمع الكل على أهمية مشاهدته وأهيئ جلستي. أطفئ الأنوار. أخفض الأصوات من حولي وأستعد لساعتين من المتعة الصافية.

تمر ربع ساعة وأجد نفسي أتساءل ما هذا؟! أوقف تساولاتي وأجبر نفسي على مشاهدة ربع ساعة أخرى. يتصاعد صوتي الداخلي يسبني ويسب الفيلم وكل قوائم المشاهدة. ويسألني هل أنتِ مستمتعة فعلاً بما تفعلين؟! لا لم أكن مستمتعة بكل هذا. لا أريد أن أشاهد أفلامًا هامة ولا أريد أن أدرس شيئًا جديدًا ولا أريد أن أقرأ في الفلسفة والتاريخ. ولا أريد أن أطبخ للجمهور.

لا أريد شيئًا. انتهى شهر رمضان والعالم ما زال في الجائحة الوبائية التي تتصاعد حدتها في مصر، وأنا أشعر بالقلق والتوتر والخوف ولا أريد أن أشعر بالفاعلية والإنجاز. أريد فقط أن يهدأ قلبي وأن تطمئن روحي، وأن أعود لتناول السكر والكولا والشوكولاتة. وأريد أن أكتب. أريد أن أكتب عن امرأة أخرى تسكنني منذ زمن بعيد. بطلة روايتي المؤجلة منذ سنوات.

أهدأ تمامًا وأدع صوتي الداخلي يقرر ما يريده، ويضع لي قائمة بما عليَّ القيام به. أنغمس تمامًا في داخلي وأنصت لصوت روحي. أُخرِج دفاتر التلوين التي أحبها، وأفتح ملفًا على الكومبيوتر وأضع مخطوطًا للرواية. أحدد الشخصيات وأرسم أبعادها وأضع مسارًا للأحداث. حتى الموسيقى التي أستمع إليها تنخفض حدتها وأبدأ في اكتشاف موسيقى أكتر هدوءًا.

تهدأ تمامًا حدة وسرعة أيامي، وأجدني بشكل ما طورت نمطًا مختلفًا يسير عليه اليوم، هادئًا خافتًا، لكن أثره ملموس في روحي التي أصبحت أهدأ، ونوبات غضبي التي اختفت تقريبًا، وصداقاتي التي تعمقت بالمقربين مني. ظهر أثر هذا الهدوء على عملي. فأنجزت جزءًا لا بأس به من الرواية. كذلك انتهيت من تلوين مجموعة من اللوحات المعقدة كثيرة التفاصيل.

عن محاولة إيجاد إيقاع ثابت في أيام مفقودة الإيقاع

بشكل ما طورت نظامًا يوميًا هادئًا. الهدف منه أولاً وأخيرًا أن يسير اليوم بخطوات معروفة. ألا أحتار أو أتردد أو أترك قيادتي للفراغ. كان كل هذا جميلاً. استطعت بشكل ما أن أشعر بالهدوء. أن أزيد من معدل قراءاتي. أن أعيد مشاهدة بعض الأفلام المحببة لقلبي. أن أكتب بمنهجية وانتظام. كان لهذا تأثير السحر على حياتي. فوجود نظام ثابت يسير عليه اليوم كان يمنع عني نوبات الذعر التي كانت تفاجئني حينما أجد نفسي في وسط فراغ اليوم الهائل، بينما يتردد السؤال في ذهني “هعمل إيه دلوقتي؟!”، بما يتبعه من إحساس بالاختناق في ظل محدودية خيارات الأنشطة المتاحة، داخل بيت يتلزم بالعزل المجتمعي منذ ثلاثة أشهر تقريبًا.

كان كل هذا جميلاً جدًا. لكن منذ يومين وبعد شهر رمضان قضيته مع عائلتي دون الخروج إلا للضرورة القصوى، ودون زيارات عائلية. وبعد عيد بدون صلاة أو تجمع عائلي أو طقس صنع الكعك، الذي ما زالت أمي ملتزمة به. كنت على وشك الجنون. شعرت أن حياتي كلها راكدة كبركة ماء آسن. كل يوم يتقلص منها جزء. منذ أسبوع لم أخرج من شقتي لشقة أبي. منذ أربعة أيام لم أدخل المطبخ. منذ يومين لم أخرج من حجرتي. يوم كامل لم أترك سريري.

هذا الصباح شعرت أني سأجن. لو استمر هذا الأمر يومًا آخر سوف أجن. تركت السرير وبحثت عن ملابس الخروج التي لا أعرف أين ألقيتها منذ شهرين تقريبًا. بطاقتي الشخصية. حافظة نقودي. نظارة الشمس. أحمر الشفاه. ارتديت ملابسي كما لو كان يومًا عاديًا سأخرج فيه للنزهة أو للعمل. بدون بخاخ الكحول ومعقم اليدين والكمامة والقفازات البلاستيكية.

أعلم أن ما أفعل خطير، والخطر في هذه الحالة قاتل متربص. لكني ما كنت أستطيع فعل أي شيء سوى هذا. خرجت من المنزل. جولة لنهاية الشارع الذي أسكن فيه في شمس السابعة صباحًا. رأيت للمرة الأولى شجرة توت أحمر عند أول الشارع. من المؤكد أنني مررت بها مئات المرات دون أن ألاحظها. وقفت أمام الشجرة. احتضنتها بعيني وشعرت بمذاق توتها على لساني. صورتها والتقطت لي صورة معها. ابتسمت لها كمن يودع صديقًا قديمًا على أمل بلقاء آخر. ومشيت الشارع عكسيًا عائدة إلى منزلي.

عن الاستماع للصوت الداخلي

ربما يكون ما شعرت به في الشهرين السابقين هو ما شعر به سكان العالم أجمع. فزع عارم وتوتر. مع شعور عام بالاختناق. فما الذي قد يشعرنا بالسلام في ظل الجائحة الوبائية التي يمر بها العالم الآن؟!

عن نفسي أقول إن أقصي ما يمكن أن يجعلني أشعر بالهدوء والسلام الداخلي في هذه الأيام الصعبة، هو استماعي لصوتي الداخلي. الإنصات لروحي والغوص في تفاصيل ذاتي. محاولاتي الدائمة للسيطرة على مصادر الأخبار السيئة وإبعادها عن محيطي. لقد عرفت عن الجائحة كل ما أحتاج معرفته للتعامل مع الوضع الراهن. عرفت أسباب انتقال الوباء وكيفية تجنبها. عرفت أعراض الإصابة وكيفية التعامل معها. عرفت أرقام المستشفيات وكيفية التواصل مع الأطباء والمختصين. أكثر من هذا أعتقد أنه يقع في بند المعرفة التي تضر ولا تنفع. عدد الوفيات اليومي وعدد الإصابات والمنشورات مجهولة المصدر التي تحكي عن المصابين الذين يتم إلقاؤهم في الشوارع. كل هذا متابعته قد تصيبني بالجنون.

كذلك حاولت اتباع تقليد يومي لطيف بالبحث عن مصادر امتناني والتركيز عليها. وأعددت قائمة أحدثها يوميًا بكل الأشياء التي ساهمَت في جعلي سعيدة أو ممتنة. سواء كانت نوع بسكويت جديد أو محادثة صديقة أو حتى كنبتي المفضلة التي أشعر عليها بالاسترخاء.

أعلم أنها أيام صعبة. أعلم أن الموت وأخباره صار خبزًا يوميًا يلوكه الجميع. لكن استعادة الجانب الروحي المهمل من حياتنا قد يساعدنا على تحمل هذه الأيام. استمع لروحك وأنصت لصوتك الداخلي. أقم حوارًا مع شجرة أو نبتة. اترك الموسيقى تتسرب لجفاف أيامك. صاحب ضوء القمر ونور شمس الصباح. دع نسمات الفجر تداعب جسدك. طوَّر علاقة حواسك بالعطور والروائح. فربما كان كل هذا مفتاحك للتواصل مع روحك الحقيقية ومعبرك لتطوير علاقتك بالكون.

عش التجربة كاملة.. فهي تجربة لم نكن سنمر بها أبدًا في حياتنا لولا فترة العزل المجتمعي اللي أجبرنا عليها.

اقرأ أيضًا: الحظر هدنة نرى بها قيمة الحياة

المقالة السابقةمسلسل ليه لأ: هيا نتفّه قضية المرأة
المقالة القادمةفيلم PS. I love you: هكذا أحببت سوء الحظ

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا