5 أعوام أمومة بين الحلو والمر

342

ياسمي

قبل تسعة أعوام لم أكن أُمًا

كنت فقط زوجة لرجل أحبه وأحتل قلبه وحدي، والأهم كنت نفسي، أملك حرية الوقت، أصنع به ما أشاء تارةً أعمل وتارةً أشكو من هَول الفراغ، أتفنن بطبخ أصناف لم أسمع عنها يومًا، أشاهد الأفلام واحدًا تلو الآخر دون أن يُقاطعني أحد حتى أسقط نائمةً.

 

أما عن مشاريع السفر فكنت أختار مواعيده كما يحلو لي مُبتعدةً عن العطلات الرسمية حيث الزحمة والصخب، أختبر الإسكندرية بالشتاء دون أن أهاب المطر، وأفضل الإجازات لديَّ كانت بمايو حين تنشغل الأسر بالامتحانات أو سبتمبر مع الدراسة التي تُعيد الغالبية لبيوتهم.

 

قبل ستة أعوام راودتني فكرة الأمومة

بعد ثلاثة أعوام من الزواج وعلى غير المتوقَّع شعرت برغبتي في أن أكون أمًا، وأقول غير متوقَّع لأنني لم أحب الأطفال يومًا، وما زلت لا أحبهم، بل أتعامل معهم على مضض مُجاملةً لذويهم، شعرت بكوني مُستعدة لخوض تلك التجربة، وراغبةً في السعي إليها، يقودني حماس وإيمان بأن الأمومة ستكون أفضل قرارًا اتخذته بحياتي.

 

ورغم تجربة حملي الصعبة فعلاً، بدايةً من التمهيد لها، مرورًا بأشهر الحمل نفسها، وما عانيته خلالها من متاعب صحية استوجبت دخولي المستشفى أكثر من مرة وقضاء معظم الحمل بوضع السكون، وصولاً لولادتي المبكرة وما تبعها من مشكلات صحية أخرى.. لكني ما زلت حتى هذه اللحظة أتذكر تلك الفترة فأبتسم، وأشعر بحالة من السَكينة والرضا تؤكد لي أن ما نفعله بشغف حتى ولو كان صعبًا يظل جميلاً ومُتفرِّدًا.

 

قبل خمسة أعوام أصبحت أمًا

تَحقق ما طمحت إليه، وأصبح لي “ونس” لا يخُص سواي، أتذكر اللحظة الأولى التي رأيت فيها ابنتي، فأُسقط حبها بقلبي وانفتحت أبوابه على وسعها ليمتلئ حتى الحافة بمشاعر مضطربة لكنها دافئة وحنونة، ليت كل لحظات الأمومة كانت كلحظتي الأولى. 

 

أعرف أنني كنت محظوظة لأختبر ذلك الحب على الفور، فصدقوا أو لا، هذا ليس أمرًا شائعًا، لكن هذا لم يمنع من أن ينهش اكتئاب ما بعد الولادة روحي، أظن -وإن بعض الظن صواب- أن تجربتي مع الأمومة كانت إحدى التجارب القاسية فعلاً والتي لا أتمنى لأحد أن يختبرها مثلي.

 

الأمومة بكل أحوالها صعبة، لكن بعض التجارب تصبح أكثر مشقةً دون سواها، خصوصًا حين يمر الطفل بمشكلات عديدة صحية تكاد تكون مستمرة طوال الوقت، ما جعلني أتأرجح بين سقطة وأخرى مهما حاولت التشبُّث، وأن يحدث ذلك لشخصية مثلي درامية، غير صبورة، مُحبة للكمال، وتكره خروج الأمور عن سيطرتها يَعني أن تتحول الحياة لقنبلة موقوتة ومحض عبث.

 

بعد سنتين ونصف من الأمومة

بدأت الأمور تتحسن شيئًا فشيئًا، أو رُبما أنا التي تبلَّدت مشاعري وبدأت اعتياد التعايش مع كَون ابنتي ستظل جرحًا مفتوحًا في قلبي بحجم محبتي لها، إذا ما أصريت على أن تكون طوال الوقت بخير، سعيدة، مثالية، وأن تظل نفسها دون أن تقهرها الدنيا.

 

خلطة مُحال تحققها بالكامل، وحتى إن تحققت لن تدوم، توليفة التعافي منها تستلزم مني ترك يد صغيرتي بين آنٍ وآخر لتختبر الحياة بمفردها دون أن أحبسها بقلبي خوفًا عليها، حتى وإن كنت أحيطها بسياج من حب، وهذا أمر لو تعلمون عظيم وعسير.

 

الآن وبعد خمسة أعوام من الأمومة

لم أعد أظن أن الأمومة على هذا القدر من السوء، أقصد أن كل شيء يمر، حتى أحلك اللحظات تنقضي ثم لا تلبث أن تختفي بفعل عطب يصيب الذاكرة تزامنًا مع الأمومة، رُبما رحمةً من الله بنا، فلا يبقى بالقلب سوى الذكريات الكوميدية أو الطيبة.

 

وشيئًا فشيئًا يعود شعورنا بالبراح، بالوجود، ذلك البراح الذي نحظى به نحن الأمهات حين نخرج دون الأبناء بصحبة الزوج كعاشقين لا أمًا وأبًا، أو حين نقضي اليوم مع الصديقات، بل وحتى حين نبقى وحيدات بينما الأطفال نيام أو بالمدرسة أو منغمسين بعالمهم الخاص. لا يهم أن يحدث ذلك لدقائق أو ساعات، المهم فقط أن يحدث لنستعيد قدرتنا على التواصل والتماهي مع كياننا الخاص والحميمي الذي فقدناه/افتقدناه.

 

وعلى ذلك، تظل الأمومة تجربة لمن يجرؤ فقط، مَن جرَّبها مرة قد لا يجد بنفسه الشجاعة لفعلها من جديد، فليس معنى أن كل شيء يمر، أن نُعاود الدخول في الحيط مرة أخرى، وإن كانت بعض الأمهات تواتيهن الشجاعة والسماحة لمعاودة الكَرَّة إذا ما طيَّب الله خاطرهن بالسَكينة اللازمة لذلك.

 

ها قد جاء عيدك الخامس يا ونس

أعلم أنه سيأتي اليوم الذي تسألينني فيه يا حَبيبتي: لماذا لم أنجب مرة أخرى؟ أو قد تقرأين ما كتبته هنا فتسألينني: ما الذي فعلتِه لي لأكره الأمومة كل هذا القدر؟ فاعلمي أنك لم تكوني قط المُشكلة، الأزمة كانت في أمك التي لم تعرف كيف تتكيَّف مع كونك بشرًا من وقت لآخر ستتألمين كالجميع، وأنكِ طفلة لا بد أن تُخطئ لتعرف الصواب، وأن من المستحيل اتساع الوقت لكل ما أريد فعله لأجلك.

 

فبقدر ما أردت منحك كل شيء، كانت المسؤوليات أكبر من قُدرتي على السيطرة، والتفاصيل لا نهائية لدرجة مُرعبة ومُزعجة، ومع امرأة مثلي تُعاني من عدم قدرتها على الاستغناء وشعور دائم بالذنب لم أعرف ما الذي عليَّ التوقف عنه وتركه لمنح حياتنا معًا مُتسعًا أكبر، ما جعلني دائمة الشعور بالنقصان والخذلان، خذلاني لكِ ولنفسي، وصدقيني كل ذلك جعل الأمر أصعب مما هو عليه حقًا.

 

أعلم أن حظك السيئ جعلك ابنتي البكر التي أختبر معها الأمومة بكل غلطاتي وسوء تقديري، أما حظي الحَسن فجعلك ابنتي البِكر لأختبر أنا معِك كل هذا الحب غير المشروط ومشاعرك الدافئة، الدائمة، والثمينة، ففي وجودك الحياة طيبة جدًا وكل شيء آمن.

 

لن أقول لكِ ظلي بحضني لأحميكِ، لكنني سأقول ليتكِ تتركيني أنا بحضنك يا “ونس” لمدة أطول كما اعتدتِ أن تفعلين كل ليلة، لأنك أنتِ ورغم صغرك وبراءتك تعرفين جيدًا كيف تحتوين كل هلعي وجنوني، أما أنا فبكل نضجي وتجاربي ما زلت لا أعرف كيف أجعل حياتك ألطف.. ليتك كنتِ أنتِ أمي لا أنا أمك، فأنتِ الأجدر بالأمومة وأنا الأكثر ضعفًا واحتياجًا.

المقالة السابقةأتى معرض الكتاب.. فلا تشتروا كتبًا
المقالة القادمةأوتوجراف
ياسمين عادل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا