يا مرايتي.. يا مرايتي

1621

بيقولوا إن السمار نص الجمال

وإن البياض الجمال كله.

*****

وحين وضعتها أنثى رجوت لها من الله جمالاً من لدنه، فلا تُحزنها المرآة ولا يحطمها العالم.

******

 

أذكرني دومًا طفلة ضحوك، لها شعر طويل وتتكلم كثيرًا وتفرط في اللهو حتى التعب.

أذكرني في بيت صديقة لأمي، امرأة طيبة حقًا وكانت تحب مزاحي كثيرًا.. للحظة أخذتني في حضن عميق وقالت لمن في الغرفة “هي وحشة بس دمها خفيف”! بداخل تلك الضمة القوية علمت للمرة الأولى أنني لست جميلة، وأن هناك خربشة رقيقة جرحت روحي، وأنها ستظل للأبد.

 

أذكرني في جلسات عائلية مزدحمة بسيدات متنمرات قاسيات الحديث، كانت لهن متعة في إخباري بفقر جمالي وقلة نصيبي منه.. فتلك تراني “عفشة”، وهذه تتحسر على جمال أمي الذي لم أصل إلى الربع منه، وهناك من تُصرّ على أن أختي الصغرى أجمل بعينيها الملونتين.. أخرج من تلك الجلسات دومًا بخربشة أخرى تضاف إلى مثيلاتها داخل قلبي، فتاة ضئيلة تجلس تحت أرجل مرآتها تبكي بعد أن نالوا من روحها.

 

أذكرني صبية صغيرة قليلة الحيلة أمامهم، لم أستطع ردعهم عن تشويه نفسيتي التي ما زالت طفلة بعد، وباتت تلك الجلسات العائلية جحيمًا أعيشه لمدة ساعات أتيقن خلالها أنني سمراء وأنني قبيحة وأنني سأكون آخر من تلهث وهي تركض خلف الزواج، فمجلسي بهذا القبح جانب أمي.

 

أذكر عجوزًا طيبة ربتت على جروحي في إحدى تلك الجلسات وقالت لي “متزعليش.. ده السمار نص الجمال وبكرة تشوفي نفسك لما خراط البنات يخرطك”. ( اقراى أيضًا: كل البنات حلوين )

 

أذكرني فرحة طائرة كالبالونات.. ما أمتعها من جملة تلك التي حوت السُمرة والجمال معًا، ركضت إلى مرآتي الحزينة وأخبرتها أنني يومًا سأكون جميلة، وأنني يومًا سأسعد، فلقد حصلت على نصف الجمال لنفسي.. وددت لو وضعت تلك الجملة وتلك السعادة بداخل صندوق واحتفظت بهما للأبد.

 

أذكر امرأة ثلاثينية باردة في واحدة من تلك الجلسات أيضًا، كان الحديث عن شكلي بالنسبة إليها كالتسلية، وعندما تجرأت للمرة الأولى في الرد عليها وألقيت لها بجملتي الجميلة لأخرسها، رمتني هي بنظرة سخرية وتشفٍ وأخرستني للأبد حين أخبرتني بأن “البياض هو الجمال كله”.

 

أذكرني جريحة مهزومة، وشعور بالظلم يتعاظم داخلي، لقد التهم البيض كل الجمال.. أخذنه بكامله لأنفسهن وتركن للسُمر نصفه فقط، في معادلة غير منطقية وظالمة وبشعة.. زاد يأسي وكرهي لنفسي وازداد الانطواء، حتى جاء موعد خراط البنات الأعظم، وحين خرجت من تحت المخرطة وجدتني أبشع من ذي قبل.. اشتد عودي على قوام مسطح بعيدًا عن المظهر الأنثوي الفاتن، وبات لي حاجبان كثيفان أشعثان يلتقيان معًا في عبسة أخدت مساحة معقولة من أسفل جبهتي.

 

أذكرني مُراهقة يافعة حزينة.. تبدلت داخليًا وصارت لي عينان باردتان، أتلقى كلماتهم الجارحة بشكل أكبر، حتى زادت نقمتي على الجميلات.. لم أعد أتمنى لنفسي جمالاً مثلهن وتعايشت مع منطق بشاعتي وأخذتها كمسلّمات الكون، لم أكن كصديقتي “هبة عبد العليم” جريئة قوية تحيل الكلمات إلى لكمات تردها لهم، بل عكسها اقتنعت وصدقت القبح والصمت..

أذكرني وقد مزقت كل الصور التي حفظت تفاصيلي على سطحها اللامع، وامتنعت عن الجلسات العائلية للأبد وغلبني شعور بعدم السلام.

 

أذكرني وقد تمنيت من السماء حبًا فجنّبني الله زواج الصالونات ومتاعبه، ووهبني حبًا وقلبًا ذهبيًا.. لم أجلس بجانب أمي كما جاء في نبؤاتهن، وكنت أول من تزوجت من بنات العائلة جميعهن.

 

أذكر أنني أدركت فيما بعد أن للجمال أبعادًا أخرى، فالعقل له جمال وللقلب جمال وللروح جمال، وللآراء جمال وللفكر جمال وللحديث جمال وللأحلام جمال.. كل ما يشكلنا حتمًا له نصيب من الجمال.

 

لا أذكر متى شُفيت! أو هل شُفيت من الأساس؟ لا أذكر هل حقًا اقتنعت بأن روحي أجمل!

تزورني أحيانًا شكوك قديمة، فأجلس بين يدىّ زوجي وأسأله هل يراني حقًا جميلة؟ يخبرني أنني الأجمل ويأمر الشكوك بالرحيل.

 

ولكن حين أنفرد بمرآتي صديقة الطفولة الحزينة، تصر على التفتيش عن تلك الخربشات القديمة التي أعرف يقينًا أنها لم تعرف معنى الشفاء بعد.. تصر على أن أبصر الهالات السوداء التي تأكل من عينيّ وعلى أن أبصر سُمرتي التي أتعستني.. أن أبصر شحوب بشرتي وشعيراتي التي تصر على ترك أماكنها لأجدها ملتفة حول أسنان المشط.

 

تصر مرآتي على أن أبصرني بعيوبي، فأدرك على الرغم من كل هذا الوقت أن تلك الطفلة ما زالت في ركن ما في قلبي تنتحب.

 

 

المقالة السابقةخليك في تابوهك ومتصدعنيش
المقالة القادمةإمتى بتحسي إنك جميلة؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا