عندما أتأمل ما مضى من حياتي لأعرف كيف أصحبتFoodista كما يطلق عليّ الآن، أجد أنني دائمًا ما كنت أتساءل. كان الشغف بمعرفة طعم ونكهة كل ما يحيط بي هو محركي الأساسي.
كنت أتساءل عن طعم شمس الصباح وقمر المساءات الوحيدة.. عن طعم قطرات المطر وطمي المزارع.. عن طعم النيران الموقدة وموج البحر.
في الحقيقة قادني الشغف لتذوق أشياء غريبة لا تخطر على بال. تذوقت المطر والطمي، وغرقت في البحر حتى كساني ملحه.
شغفي قادني لتذوق العناصر الأولية.. المكونات في صورتها الأولى بدون طهي أو تدخل إنساني: اللحم.. الدجاج.. البيض.. الليمون.. اللبن.. البهار.. القمح.. السمك.. التفاح.. الذرة.. فول الصويا.. عصارة المحار وحرارة الفلفل ومرارة الصبار.
كل مكون كان يترك على لساني أثرًا وعلى روحي آثار.
كل مكون كنت أتذوقه كان يقربني خطوة من حضن الأرض.
كنت أشعر أني منها.. نبتها. عنصر من عناصرها الأولية.
***
على مائدة الطعام أكثر من صنف بينما نتجمع نحن على المائدة. أمد يدي وآخد ملعقتي وأضع حصة من كل صنف في طبقي. بينما كل أخ من إخواتي يقاطع على الأقل أحد الأصناف.
تقول أمي: “مفيكوش غير هبة. عمري ما أحط قدامها أكل وتتأمر وتقول لأ”.
تعتبرها أمي دلالة قناعة ورضا. أما أنا فكنت أتذوق كل ما يوضع أمامي وكل يوم أبحث عن مذاق جديد.
كان نهمي لا يقاوم. ليس نهمًا للطعام وإنما للتجربة في حد ذاتها. نهم حسي لا يشبع وكل يوم يتطلع للمزيد.
كان نهمًا للحياة وكان الطعام مفتاح للدخول في قلبها.
كان نهمًا لمعرفة السر. للولوج إلى القلب. للهجرة إلى المركز.
كان نهمًا لتحليل كل شيء ورده لأصله.
جربت تناول الطعام في كل مكان. جربت طبخ أمي وجدتي وخالاتي. جربت ما تصنعه أمهات صديقاتي. جربت المطاعم التي صادفتني كلها.
مطعم فول عم عبده بجوار المدرسة. كبدة ومخ الشرقاوي بميدان العباسية. عربة الجمبري المقلي بميدان العتبة. فرن الحواوشي في محل الجزارة بميدان سفير. سافرت لدمياط والإسكندرية والفيوم من أجل مذاق طبق أصلي.
جربت المطبخ الصيني والهندي والياباني والإيطالي والأمريكي والفرنسي والخليجي والإيراني والتركي.
تعلمت أن أحلل الطعم الذي أتذوقه وأصنفه بين الحلو والمالح والمر والحمضي. لكن ظل هناك شيء مفقود. طعم أميزه ولا أستطيع تعريفه.
قرأت عن الطعام وعن الطبخ كثيرًا، وفي كل ما أقرأه وأجربه كنت أطارد الطعم المميز غير المعرف. حتى صادفني كتاب يشرح ماهية الطعم الخامس أو الأومامي.
توقفت أمام الكلمة، وأعدت قراءة التعريف مرارًا وتكرارًا. عدت لمكوناتي لأحاول العثور عليه في ما أقوم بطهوه.
الأومامي كما عرفت هو الطعم الصافي الخام للبروتين في الأغذية، سواء كانت خضراوات أو لحومًا.
وتعلمت أيضًا أن تدليل الحواس مهمة لازمة في عملية الطهو. أي أننا يجب أن نطهو طعامًا “يفتح النفس” كما يقولون.
فالطعام يجب أن يكون شكله جميلاً لأن العين تأكل قبل الفم.. يجب أن نراعي ملمسه الذي يتنوع بين الهش والمقرمش واللين عند طهوه.. يجب أن نراعي الصوت الصادر عن قضمه والذي يؤثر في تقبلنا للطعام.. يجب أن نراعي رائحته عن طريق اختيار مكونات طازجة ومعرفة كيفية اختيار توليفة البهارات المتناغمة.. وفي النهاية سنصل لما يدلل حاسة التذوق بطعم لا يقاوم.
تعلمت كل هذا في رحلتي الطويلة مع الطعام، والتي بدأت منذ أن كان عمري ستة أعوام، ووقفت في المطبخ لأول مرة لأطهو بإشراف أمي. تخرجت في الجامعة وعملت في شركة استيراد فواكه وخضراوات استوائية، فجربت مذاقات جديدة. قرأت في فن الطهي كتبًا ومقالات أكثر من أن أحصيها، فتنوعت مصادر معرفتي حتى استطعت ابتكار وصفات جديدة وتطوير وصفات أوروبية وآسيوية لتلائم الذوق العربي.
والآن أنا Food stylist مسؤولة عن إخراج الصورة الجميلة للطعام، والتي أستعين بها في عملي، وتستعين بها المطاعم وكبرى شركات صناعات الأغذية لتوصيل رسالتهم للجمهور المستهدف.
في الوقت الحالي أقضي أيامي بين القراءة والطهي والتصوير والـStyling الذي أستمتع به. لم تنتهِ رحلتي مع الطعام ولا أنوي لها أن تنتهي الآن.
أفكر في برنامج تليفزيوني يحتضن عملي وأفكر في افتتاح مدرسة لفنون الطهي.
وأجيب على سؤال يسأله الجميع لي.. لماذا لا أفتتح مطعمًا؟
لأني لا أريد أن أطهو لأغراب لا يجمعني بهم شيء.. أنا أريد أن يتعلم الجميع كيف يطهون لأحبتهم بحب كما أفعل أنا مع أحبتي.
وقتها فقط ربما أصبح نبتة من نبت الأرض، لي طعمي الذي يميزني عن الجميع.