وشكوت لله أن التراب يحزنني

606

دينا

6/4/2015

لم أعتد يومًا الشكوى إلى الله.

الذهاب إليه بكامل إرادتي لأضعني بين يديه المنبستطين نحوي.

كنت أفكر: “ماذا سأقول لرب العالمين؟”.

 

مشكلاتي اليومية بسيطة وهمومي تسع صغر عالمي.. أعرفه فقط في العقبات الكبيرة التي تبتلع حياتي من حين لآخر أو حين تبدو لي بضعة طلبات أنها ملحة بشدة، فأبحث عن درب الله وأذهب له.

ولكن هنا تلك الشكاوى الصغيرة التي يتنباني خجل لو حكيتها له.

هل سأخبره أنني اليوم ابتأست لأن محاولتي الأولى لإنجاح صينية البسبوسة قد فشلت بتيبسها واحتراقها، فظللت أنظر إليها باكية واستعراني إحساس بالفشل رغم ضآلة الحدث.

هل سأشكو له صديقتي التي لم تعد تعبأ بي وذهبت عني وظللت أبحث عنها في الصور القديمة والأوراق المهترئة وأتجاذب الأحاديث مع ذكراها فقط.

هل سأبث له تعبي البالغ في لملمة أغراض ابنتي المبعثرة هنا وهناك، وعن ضيق خُلقي لأجعلها تتذوق الطعام الذي أخذ من جهدي ثم عزفت عنه وكان مصيره سلة القمامة.

هل أبعث له بشكوتي من زوجي لأن غضبته اليوم كانت قاسية وشجارنا أنهكني وإثبات أن رؤيتي كانت أصح من رؤيته استنفدت طاقتي، فرحلت عنه إلى غرفة الصغيرة ليراجع نفسه ويأتيني.

 

أشعر بتفاهة كل ذلك أمام الله.

هناك ما هو أقوى وأكثر حاجة لاهتمام الله وكامل نظره وسمعه.

هناك موتى ومرضى وقلوب كسيرة ورقاب ذليلة وجوعى.

هناك ما هو أهم من البسبوسة المحروقة، والكنزة المأخوذة بدون علمي، وتلك التي تكلمت عنى بالسوء، وحزني على المزهرية التي انكسرت وانكسر قلبي معها.

لدى الله عباد آخرون وحوائج أخرى ليقضيها وهموم أشد ليرفعها عن أصحابها.

 

هكذا كنت أفر من نفسي بعيدًا كلما حاولت إثقال مسامع الله بهمومي البسيطة وألقي بها نحو المحيطين بي، أشكوهم آلامي وأسرد لهم عقبات يومي.. أجد صدر أمى وقلوب أخواتي والبراح الساكن في عينيّ زوجي، صديقات وقريبات ومعارف.. الحياة تفيض عليّ بهم دومًا.

كنت أشعر بالراحة للحديث معهم ولكنها أبدًا لم تكن كاملة مثالية كمهدئات الصداع.

فجميعهم يداووني بالأحاديث عن الآخرين أو بسرد همومهم الخاصة.

“سيهون ابتلائي حين أسمع عن ابتلائات الآخرين”.

هكذا كان مبدأهم.

ولكنهم في الأصل يثقلون مسامعي، ويضعون داخل قلبي المزيد من الأحجار.

 

همّي يتضخم داخل هموم الآخرين ولا يتضاءل.

فقط يشتعل داخلي.

ينتهي الحديث وتُغلق الهواتف وأنا على أتم دراية أن همّي سيتخذ دورته الطبيعية الآن ليكون مهدئًا لشكوى آخرين، سيهون حزنهم أمام حزني.. أو قد يتندرون على شكوتي التي جعلت مني تافهة أخرى تعظّم الأمور، وأصير تسليتهم ومثار سخريتهم.

حين أشكو للناس أعرف أنني أخطأت.

 

“إن النفس التي تحب الله لا تجد الراحة إلا فيه”.

القديس إسحاق السرياني.

 

توقفت أمام تلك الجملة التي دونتها إحدى الصديقات على صفحتها الخاصة.

أتدبر في الكلمات الروحانية النابعة من نفس تحب الله.

أنا أيضًا أحب الله، وأعرف أن راحتي هناك بين راحتيه الممدوتين دائمًا.

يعدني بحضن واسع وخلاءٍ رحب.

يحتضنني ربي ويخبرني أنه سيكون سر قلبي.

 

أتأمل الجملة وأتذكر أنني هرعت إليه منذ عدة أشهر.. هرولت له باكية، ضامرة النفس، ضائقة القلب.

كان ذلك بعد عاصفة ترابية شديدة داهمت منزلي كحال الجميع وتركته مصفرًّا عليل الهواء.

لطالما كنت من ذوات الهمة النشيطة في الترتيب، أهوى الأرفف والمناضد اللامعة.. تمرض نفسيتي في أي بيئة تعاكس هذا.

ومرضت نفسيتي تلك المرة مرضًا شديدًا.

ذبلت مع أكوام التراب الذي استوطن الشرفة واتخذ من ثغرات النوافذ بيتًا، خسرت التحدي معه عندما قررت أن أنهض لأنفض عن نفسي وعن كوني الغبار.

 

ما عدت أستطيع.

أردت من يشحذ همتي ومن لديه كلمات ترفعني من مرقدي وبؤسي.

ثم فكرت أنني لا أريد أن أشكو لأحد.

لن أستمع لتلك التي ستتلذ بخيبتي أمام بعض الغبار، أو هذه التي ستخبرني عن فلانة أخرى تندب خدودها مثلي، أو أخرى تعرفني على الخطوات المثالية للتخلص من أطنان الغبار وكأنني حديثة العهد بالتنظيف.

لا أريد كلماتهم.. لا أريد نصائحهم.. لا أريدهم.

أنا أريد الله.

 

جلست معه بعد أن فرغت من الصلاة.. تموضعت على سجادتي المزدانة بالزهور المطرزة.

طأطأت رأسي بخجل وأخذت أداعب بأصابعي الوردات الصغيرات أرتب الكلمات في رأسي، أحاول أن أخبره أي شيء.. أي شيء.

تلجّم لساني وعزف عن البوح.

الأفكار السوداء تأتيني ويتردد داخل رأسي عبارات على غرار أنتِ بلهاء، ستخبرين الله أن التراب يحزنكِ؟! كدت أستسلم، وأقول كدت.

ولكن شيئًا ما.. إحساسًا ما ضمني ارتعشت له شفتاي وجاءني الدمع الذي أبى النزول قبلاً من صغر الموقف.. جلست أتمتم وأنادي على ربي.

احتضنني يا الله.

زمّلني يا الله.

أنا مبتئسة وأحتاجك، لن أشكو سواك ولن أجد الراحة إلا فيك.

أعنّي بقوتك على مستعمرات التراب أو أضف عليّ من الصبر صبرًا حتى تلامس قدماي الأرض وأنهض من جديد.

هدئني يا الله.

لا تضحك مني أو تستصغر شكوتي.. أعرف أنك تنظر لي، وأرى نورك من حولي.

خذني إلى أرضك الهادئة وطيّب خاطري حتى أنام وأستيقظ صحوة النفس والبال.

أستودعتك أفكاري، فخذها إلى مستقر آمن وخذني معها.

 

ما حدث في نهار اليوم التالي أنني كنت هادئة بشدة.. ومبتسمة.

الأحجار الثقيلة لم تعد بداخلي وشعرت بخفة وكأن أقدامي سترتفع عن الأرض، وكأن الله أخذني البارحة واستبدلني بأخرى اليوم.

وجدتني أعود إلى روتيني الصباحي، فتحت النوافذ المغلقة منذ أيام وحييت الشمس واستضفتها في المنزل تتجول فيه كيفما تشاء.. رأيت كومات التراب التي هربت منها سابقًا وكان لقاؤنا باردًا وكأنني لم أعد أبالي بوجودها.. لقد جعل الله من ناري بردًا وسلامًا عليَ.

نافذة تلو الأخرى أفتحها حتى وصلت إلى الشرفة المغطاة بطبقة من الرمال الثقيلة، كانت في حال سيئة ولكنني عقدت مع الغبار معاهدة صلح قصيرة وتعايشت معه لعدة أيام بعدها حتى ودعته حين استرددت قوتي وقمت بالتنظيف.

 

لم أضغط على روحي كما أفعل دومًا.

طلبت من الله صبرًا على حالي، وجاءني الله بقبسٍ من صبر.

صالحني على ذاتي وعلى الموجودات حولي.

طيّبني بدواء غير هموم الآخرين.

لم يسخر مني واستمع إلى شكوتي.

أبصرت طريقًا إلى الله وأخذت أعبره كلما ضاقت رحاب دنياي.

وأدركت أن درب الله مفتوح ودروب الناس مغلقة.

 

 

المقالة السابقةما فعلته بنا الخلفة
المقالة القادمةالتأمل: طريقة سهلة وسريعة لتقليل الإنهاك

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا