كان فيه فيلم للمثل بين ستيلر، اسمه “الحياة السرية لوالتر ميتي، The Secret Life of Walter Mitty، 2013″ بيحكي عن موظف أرشيف عادي جدًا، بيقضي جزء كبير من وقته في أحلام اليقظة، وفي الآخر قابل الشخص اللي كان بيحلم يقابله وحقق جزء كبير من أحلامه. أهو أنا بعتبر نفسي روز ميتي، مع فارق إن مفيش حد لسة كتب عني فيلم.
كتير حواليا بيتهموني -وأنا كمان- إني بسرح كتير جدًا، بتخيل مواقف وأعيش فيها بكل مشاعرها، لحد ما شكيت في سلامتي العقلية كذا مرة، وبقيت بقرأ وأسأل: هو ده طبيعي؟ عادي يعني؟ وكتير بجرّ نفسي جرّ للواقع، إني أعيش فيه بتفاصيله كلها و”أرضى بقى بيه” عشان “إحنا مش أحسن من غيرنا” ولا بأس من اتّباع نفس خطى الأقدمين ما دام مصيرنا واحد والهمّ واحد.
لكن.. طلع مصيرنا مش واحد ولا الهمّ واحد!
كان فيه جملة سمعتها في فيلم “الباب المفتوح” على لسان حسين عامر، أو صالح سليم في أقوال أخرى، بيقول فيها لليلى أو فاتن حمامة اللي قضت جزء كبير من الفيلم مبوّزة جدًا: “اعملي اللي بتؤمني بيه قبل فوات الأوان”، ولسبب ما قررت أنفذ هذه الفكرة.
اقرئي أيضًا: شكرًا يا الله.. لأنك الله
في شهر مارس 2017، اتخذت قرار قوي ومفاجئ: أنا هسيب القاهرة وأروح أعيش في دهب. أنا هعمل زي والتر ميتي وأحقق جزء من أحلامي.
إشمعنى دهب؟ لأسباب كتيرة، منها إني بحب البحر جدًا، ومنها إنها بسيطة ومش غالية على حد ما قريت عنها واتوصفتلي، بس السبب الأهم: إنها المدينة المصرية الوحيدة التي تخلو شوارعها من التحرش.
استقلت من شغلي واستلفت من كل اللي أعرفهم ولميت حاجتي وهوب.. في 1 مايو مع عيد العمال، استقليت الأتوبيس لوحدي تمامًا، كان الأتوبيس فاضي معرفش ليه، وسافرت على دهب.
أول ما نزلت ودوّرت على مكان أسكن فيه بميزانية كويسة ويكون قريب من البحر وقريب من الخدمات: سوبرماركت وسوق خضراوات وصيدلية… إلخ، حسيت بانعتاق جميل جدًا، جربت أحاسيس أول مرة أحسها في حياتي كلها يعني: إني أبقى مسؤولة عن البيت كله، أنا اللي أجيب الخضار وعلى مزاجي، وأطبخ اللي على مزاجي، لا مزيد من الملوخية اللي بكرهها، مفيش صحيان بدري ومفيش خِناق مين يطلَع كيس الزبالة ولا مين ينشر الغسيل ولا مين ساب المنشر من غير غطا والمطرة غرقته.. جرّبت إحساس المسؤولية لأول مرة وأنا عندي 30 سنة بحالها، يا سادة.
كنت بصحى قبل الضهر بشوية، وأنا اللي بكره الصحيان بدري، بس كان فيه مسلسل حبيته قوي كان بيتعرض على التليفزيون وقتها. أعمل الفطار وأتفرج عليه، وأغسل أطباقي بكل هدوء وراحة بال، أستعمل صابون الغسيل اللي بحبه، أعملي القهوة بهدوء وأقعد أشتغل براحة بال نسبية. رغم إني كنت بجري ورا الوقت عشان ألحق مواعيد التسليم، فأنا استمتعت جدًا بالشغل اللي عملته في الفترة دي.
على العصر بقى وتكون الشمس كسرت، ألبس المايوه وجزمة البحر وهوب، أتمشى خطوتين ألاقيني على الشط. فيه في دهب شواطئ مش مملوكة لفندق أو كافيه، مفتوحة للناس عادي يعني، وده شيء مختلف جدًا عن إسكندرية مثلاً أو الساحل أو الغردقة، ويفرق كمان إن البحر الأحمر رغم ملوحته العالية فهو ألطف كتير للنزول، خصوصًا لواحدة بتخاف من البحر جدًا وبتكره السمك جدًا قوي خالص يعني، زيي.
كنت بعد ما آخد كفايتي من محاولة الطفو بلا غرقان (مبعرفش أعوم للأسف) أطلع وأتفرج على الغروب وأنا متكتكة من البرد، وأروّح أستحمى وأغسل المايوه وكل طقوس المصيف المرهقة دي، وبعدين أفاجأ -كل مرة بتفاجئ.. سبحان الله!- إني مجبتش أي حاجة للعشا.. ينفع كده يا روز؟!
وأنا مرهقة قوي بقى، ألبس وأتمشى لحد السوق، أشتري الخضراوات يا إما على حسب شكلها عاجبني أو أنا محددة هطبخ إيه. مرة جبت بتنجان وعملت مسقعة عظيمة، من غير ما أقليه في الزيت عشان القولون ميشتكيش. شكرًا عزيزتي روز إنك بتراعي بطني ومتاعبها.
أروّح وأطبخ وأتفرج على أي شيء في التليفزيون أو على اللاب. أكتر حاجة فاكراها هي كمية الجوع واللهفة اللي كنت باكل بيها، وإن قد إيه الأكل كان عظيم جدًا يعني. لحد دلوقتي مش قادرة أحدد: هل طبيخي اتحسن وأنا هناك، ولا الأكل كان حلو فعلاً، ولا الجوع كان طاغي لهذه الدرجة؟ أفتكر إن كان فيه سوبرماركت محدد كنت بشتري من عنده المخلل، وكان حلو جدًا لدرجة تضرب أي مخلل في القاهرة وتركنه على جنب بازدراء. من ساعة ما رجعت مش عارفة أحدّق جنب الأكل.
طبعًا كان مستحيل تكرار نفس التفاصيل كل يوم، عشان كده نزلت البحر قليل، لأن غسيل المايوه الطويل ذي القطع الكتير كان مرهق، والبحر مرهق والمشي للسوق مرهق وأنا بحب الأنتخة الحقيقة يعني. كنت بقضي جزء كبير من وقتي، يا إما بسمع صوت الصمت حرفيًا، بعد ما أقفل كل الأجهزة وأفتح الشباك وأقعد محدقة في الفراغ، متأملة في أعجوبة إني فاتحة الشباك ومحدش كاشفني، لأن ببساطة فيه سور ورا الشباك، أو أحاول أركّز قوي وألاقيني سامعة صوت الموج في عمق الليل، والدنيا ساكتة تمامًا وحاسة بألفة عجيبة وشيء في منتهى المتعة حقيقي. فيه إحساس كده لطيف جدًا نابع من إنك لما تدّي حد حرية التصرف في شؤونه الخاصة وإنه يشيل المسؤولية كاملة، وينجح فيها ميطبّش، بتديه طعم فائق الإبهار من النجاح والإحساس بالأهمية، وإنه ما دام نجح في إدارة المنزل لعدة أيام ورا بعض يبقى أكيد ممكن ينجح في شغله أو يترشح لرئاسة النادي أو حتى ينشئ شركته الأولى، وينجح فيها.
النجاح طعمه حلو جدًا، والاستقلال برضو، وإني أحط الكوباية دي كده لأن كده عاجبني، وإني مطبخش بالبصل ولا التوم -وطلع ينفع يا سبحان الله!- عشان القولون العصبي، وأشوف اللي عاجبني في التليفزيون مش اللي عاجب حد تاني، في بيت أصلاً التليفزيون فيه بيتشال أغلب الوقت، دي أعجوبة من أعاجيب الزمن. وطلعت أقدر أشيل مسؤولية الشغل وأعمله كمان وأنجح فيه.
بس للأسف.. كل حاجة حلوة ليها نهاية. كان لازم آجي القاهرة لأن الرطوبة في المدن الساحلية لا تطاق، ولأن دهب للأسف مفيهاش دكاترة كُتار أو متنوعي التخصص، وأنا -فلنواجه الحقيقة- شخص بيحتاج للأطباء كتير يعني.
بس على مين؟ أنا أهو على أعتاب بداية جديدة، إن شاء الله. بداية جديدة من الاستقلالية والطبخ بحرية والمزيد من العمل والدراسة. حاسة إني بقالي كتير قوي محبوسة جوة طشت بغطا ومقفول عليّ جامد، وحان الوقت لفرد أطرافي وإني أتنفس كويس بقى، بغض النظر إن تشبيه القمقم بإنه “طشت بغطا” غير مألوف، بس أعتقد إنه بيؤدي الغرض، ولا إيه؟