كنت أتجول في المكتبة حائرة وشاردة على غير عادتي، فقد كانت هذه المكتبة منذ سنوات قريبة من أكثر الأماكن التي أستمتع بالبقاء فيها.
أما الآن بينما أتجول، فأنا أفكر رغمًا عني في كم العمل الذي يجب أن أنتهي منه قبل نهاية الأسبوع، وخطتي السنوية التي لم تتحقق بالكامل حتى الآن رغم اقتراب السنة على نهايتها، وأقاربي الذين لا بد أنهم غاضبون عليّ لأنني لم أتواصل معهم بالشكل الكافي في الأشهر الأخيرة.
أحاول أن أنفصل عن هذه الأفكار السلبية المؤلمة بالنظر إلى الكتب وعناوينها، وسريعًا ما أجدني أفكر في كم الكتب التي اشتريتها ولم أكمل قراءتها، لأشعر بالمزيد من تأنيب الضمير.
عندها رأيت هذا الكتاب، فشعرت أنه يناديني، أو أنا قد ناديته!
مؤلف الكتاب هو المدون الأمريكيMark Manson ، الذي حاول في الأعوام الأخيرة من خلال مدونته تعديل مفاهيم تم تمريرها عبر أجيال، على أساس كونها تمثل قيمًا عُليا تساعد الإنسان كي يصبح فردًا صالحًا من أفراد المجتمع، بينما يراها الكاتب قيمًا تضر بالفرد أكثر مما تفيده.
كتابه الذي أمسكه الآن، يصعب ترجمة عنوانه ترجمة حرفية، فإن أقرب عنوان موازٍ لمعناه من وجهة نظري هو “فن عدم الاكتراث”.
الكتاب صدر في العام الماضي ونجح في أن يكون من أكثر الكتب مبيعًا، يحاول الكاتب من خلاله أن يطرح قيمة جديدة يراها مهمة للصحة النفسية للفرد، ألا وهي “عدم الاكتراث”.
وهو يبادر بالتأكيد أنه لا يشجع على ترك الأهداف، أو العيش بسلبية. بل على النقيض، فهو يدعو إلى الإيجابية، والعمل على تحقيق الأحلام، لكن من خلال منظور جديد ومختلف.
ففي أحد فصول كتابه، يتحدث الكاتب عن فكرة “البحث عن السعادة”، حيث يرى أن في عصرنا الحالي هناك اتجاه محموم للبحث عن قيمة السعادة، بشكل لا يقربنا منها بقدر ما يبعدنا عن جوهرها الأصيل، ألا وهو الحياة ببساطة في إطار الممكن.
فمن وجهة نظره كوننا ندرك أننا نبحث عن السعادة، فهذا يؤدي بشكل لا واعٍ إلا اعتقادنا أننا لسنا سعداء. وكذلك فإن بمجرد رغبتنا في الشهرة، أو الشعور بالأهمية والشعبية وسط أقراننا أو مجتمعنا، فإننا نعطي أمرًا مباشرًا لعقولنا، فحواه أن نعتقد أننا نفتقر إلى الجاذبية، وعلينا أن نزيد نصيبنا منها بأي شكل كان.
خصوصًا في العصر الحالي، فالناس يترجمون كل إنجاز وكل هدف، بل وكل مكان يذهبون إليه إلى صور على مواقع التواصل الاجتماعي، تنقل للآخرين معنى واحد ألا وهو:
“أنا رائع جدًا لأنني…” لأنني مشهور، حصلت على جائزة، لي عدد ضخم من المعجبين، سافرت حول العالم، أرتدي أغلى الثياب. بالتالي.. أنت “غير رائع على الإطلاق لأنك…” لاتمتلك كل هذه الأشياء.
وما لا ينتبه له البعض، ويوضحه الكاتب، أننا نصبح بالتالي عبيدًا لتلك الأشياء التي تملكنا، بينما نظن نحن أننا نملكها.
الأمر الذي يجعلنا نضيع أعمارنا وجهدنا في الوصول لأشياء قد لا تكون ذات قيمة على الإطلاق، سوى أنها قد تجعلنا أكثر بريقًا أو أهمية في أعين من حولنا، ونصبح بذلك نشبع حاجات لا تخصنا في المقام الأول أو لا تعنينا إذا ما صح التعبير، بل فُرِضَت علينا من الاتجاهات العامة السائدة حولنا، والتي يتم الترويج لها على أساس أنها القيم الأهم.
ولهذا فمن الأفضل من وجهة نظر الكاتب، ألا نكترث بهذه الأشياء أو الأوهام، إذا كنا نرغب في السلام الداخلي، خصوصًا لأننا –وكل من نعرفه على ظهر الأرض- سنكون في عداد الأموات جميعنا بعد وقت ليس بالطويل.
وبالتالي.. فإن الكتاب يحثنا على تحديد أولوياتنا، حيث يفترض أن عدد الأشياء التي لدينا المقدرة على الاكتراث بها محدود بمحدودية أعمارنا وطاقاتنا، ولذلك يصبح الاكتراث بكل كبيرة وصغيرة في حياتنا أمر غير منطقي.
فمثلاً.. من المحتم علينا أن نصبح واعين أن الغضب على خطأ ارتكبه عامل البنزينة أو المطعم على سبيل المثال، سيستهلك من طاقتنا، وبالتالي من رصيد انتباهنا الذي يجب أن ينشغل بمشكلات أكثر أهمية واستحقاقًا لإثارة “غضبنا الإيجابي من أجل حلها”.. إن صح التعبير.
أو بمعنى آخر فإن على كل فرد أن يختار معاركه.
ويرى الكاتب أيضًا أن من الأخطاء التي وقع فيها المجتمع الإنساني في السنوات الأخيرة مقولة “كل شخص هو شخص مميز جدًا” التي نقولها لأنفسنا ولأبنائنا، ويقولها خبراء التنمية البشرية للجميع في ندواتهم وبرامجهم التليفزيونية.
فبالرغم من أن المقولة صحيحة نسبيًا، لكننا قد ترجمناها إلى عدد من الأفكار، منها “أنت مميز جدًا، أنت قوي جدًا، أنت خارق، يمكنك فعل كل شيء وتعلم كل شيء…” وهو الأمر غير الحقيقي.
لأننا كبشر متفاوتون في قدراتنا، ولدينا نقاط ضعف كثيرة كجزء من طبعنا الإنساني، بالتالي يجب أن نعترف بعيوبنا ونتقبلها أولاً، لنعرف كيفية تطويعها أو التغلب عليها، لتحسين أداءنا، سواء على المستوى المهني والتعليمي أو الاجتماعي.
كما أن هذه المقولات تجعلنا نتوقع أن يكون كل أفراد المجتمع نوابغ وأثرياء، بينما من الطبيعي أن الأغلبية العظمى من البشر على الأرض هم بشر عاديون، بالمعنى الإيجابي للكلمة وليس السلبي.
بشر يعانون ويستمتعون، يصيبون ويخطئون، يشعرون بالسعادة والرضا بالأشياء العادية، بغض النظر عن كونهم غير نابغين ولا مشهورين.
ولا يعني ذلك حتمية أن نصبح بلا هدف أو طموح، بل يعني الاستمتاع بالأشياء الصغيرة التي تأتي في طريقنا، والتي قد لا نُقدِّر أهميتها في رحلتنا للبحث عن أحلامنا.
كما يخبرنا الكاتب في أحد الفصول عن كوننا “مخطئون طوال الوقت”، وعلينا تقبّل ذلك. وهو لا يعني بذلك التقليل من شأننا كبشر، ولكن ببساطة لأن فكرة الصواب المطلق غير موجودة. فالعلم نفسه يتغير كل يوم، وما كان مقبولاً في مجال الطب على سبيل المثال منذ أعوام قليلة، قد يكون مرفوضًا تمامًا في اليوم الحالي. وكذلك الحال مع القيم المطلقة أو التي نعتقد أنها كذلك.
وبالتالي لا داعي للخوف أو الاكتراث المُبالغ فيه من أن نكون مخطئين، أو أن يقال عنا إننا كذلك، لأن عملية التغيير تقتدي بالضرورة التنازل عن أفكار أقدم وتبنِّي أفكار أحدث، والاعتراف بكوننا كنا على غير صواب في اختياراتنا السابقة.
بالتالي يصبح الخطأ جزءًا لا يتجزأ من عملية التعلم والتطور المستمر، سواء بالنسبة للإنسان أو للمجتمع البشري ككل.
فلنتقبله إذن دون شعور بالذنب، أو في قول آخر دون اكتراث به بشكل يؤثر على سلامنا الداخلي، وقبول أنفسنا كبشر غير خارقين لنا طابع إنساني هو أكثر ما يميزنا عن غيرنا من المخلوقات جميعًا.
رابط الكتاب:
https://www.goodreads.com/book/show/28257707-the-subtle-art-of-not-giving-a-f-ck