المشهد الأول/ ليل داخلي/ بعد الولادة بشهر ونصف
يخبرني مديري بعد أن سلَّمته عدد المقالات المطلوب مني كاملاً ودون تأخير عن مواعيد تسليم كل مقال، بأنني أثبت أنني عظيمة، وأن الجميع كان يراهن على قدراتي وأنني لن أتأثر بالأمومة، وبأنهم كانوا يوقنون أنني قوية وأنني أستطيع التوفيق بين واجباتي جميعًا دون أي تقصير.
المشهد الثاني/ نهار داخلي/ بعد الولادة بثلاثة أشهر ونصف
يخبرني مديري بعد أن سلمته عدد المقالات المطلوب مني ناقصًا وبفارق كبير عن المواعيد التي كان يجب أن أسلم فيها، أنه “رمى طوبتي”، وتخبرني مديرة أخرى في مكان آخر أنها تنتظر مني أن أفي بكل متطلبات التسليم، فـ”أدهم كبر دلوقتي وتقدري تشتغلي بكامل طاقتك”.
بين المشهدين شهرين من الزمن فقط، وبينهما مثل ما بين السماء والأرض من الاختلاف في مشاعري. في المشهد الأول كدت أطير فرحًا وفخرًا بنفسي وقدراتي، في المشهد الثاني صدمتني الحقيقة في وجهي بكل قسوة، وشكرت الله أنني لم أتأخر في اكتشافها أكثر من ذلك.
أنا شخص يرتعب من التغيير، وهلعي الأكبر أن أتغير أنا نفسي، بالإضافة إلى أنني أحب عملي وأدين للكتابة بالكثير، هذا غير أنني لا آتمن الدنيا، باختصار كان عندي من الأسباب ما يجعلني أرفض أن تغيرني الأمومة، صممت أن أفي بالتزاماتي كلها، أسلم مقالاتي في مواعيدها، أهاتف صديقتي يوميًا، أُحضِّر لزوجي إفطاره ليلاً ليأخذه في الصباح التالي، أبتسم وأفي بالوعود وأستمع للشكاوى، أظل حرة تمامًا فيما أنا أعتني بصغير يحتاجني بالكامل وأرعاه على أكمل وجه.
فجأة وجدت العقد ينفرط، أنا لا أريد أن أظل حرة، أنا مستمتعة بيومي المكدس وأمومتي ووظيفتي كزوجة وأم، أُكرِّس طاقتي لصغيري وأحب عملي، أستمتع بكوني بطلة في البيت، أغسل الصحون وأنا أغني وأهتف كالمجانين، ولا يكفي ذلك، فأحمل صغيري على كتفي وأشطف مواعيني بيد واحدة، أطبخ السبانخ وأعجن البيتزا بيد واحدة، أتبل الدجاج وأغني لصغيري وأصنع مكرونة بالخضراوات الملونة، أتابع المسلسلات التافهة وأقرأ لصغيري قصة قبل النوم، لا يفقه منها شيئًا وينام من رتابة صوتي، ويبقى زوجي متيقظًا متسائلاً عن النهاية دافسًا رأسه في الكتاب ليتأكد من أن عقلة الإصبع صنع من سلطانية الشوربة قاربًا صغيرًا ليعبر النهر.
يؤلمني ظهري وتُرهَق عيناي، ولكنني أحمم طفلي في نهاية اليوم بظهري المكسور وركبتَي المُخوَّختين، ألف أنا وزوجي في المتجر الأنيق لنشتري للصغير منشفة كبيرة من القطن الخالص، أتجاهل إلحاحه أن يشتري لي فنجانًا جديدًا لقهوتي الصباحية، ونقف أمام كرسي “ليزي بوي” متأملين جماله وننصرف دون حتى أن نسأل عن سعره، يحاول زوجي الهروب من أمام التلفاز وأجبره على الجلوس ليشاهد معي برنامج مسابقات المواهب مُكرَهًا، وفي نهاية اليوم أكتب، أكتب مقالاً متأخرًا ولكنه خارج من صميم قلبي، أكتب لأنني أحب عملي وليس لأنني قوية ولم أتغير.
اكتشفت أنني لم أعد بطلة في نظر الكثير ممن يرأسونني، صدمني ذلك وشعرت بالحزن، أنا أريد أن أظل بطلة ولكنني أحب ما طرأ على حياتي من تغيير، لماذا لا يهمكم سوى أن أُسلِّم عملي في مواعيده؟ أنا أم بدوام كامل، وزوجة بدوام جزئي، وكاتبة ومحررة محتوى بالقطعة، لماذا لا ترونني بطلة لأنني أبرع في كل الأدوار حتى لو قصَّرت قليلاً وتأخرت كثيرًا؟ لماذا لا ترون أنني لا أتخاذل أبدًا؟
المشهد الثالث/ نهار داخلي/ بعد الولادة بأربعة أشهر
أصحو من النوم مفزوعة، أسأل زوجي: في أي الأيام نحن؟ يخبرني أنه السبت، أهُب جالسة في الفراش وأنظر لطفلي المتيقظ بجواري، لقد نسيت، نسيت الاجتماع، ونسيت أن أعتذر عنه، ونسيت هاتفي صامتًا فهاتفتني مديرتي ولم أرد عليها، يدق قلبي بعنف، ألهذه الدرجة تغيرت؟!
أكتب اعتذارًا وأرسله على مجموعة العمل التي تأخرت عنها، أعتذر لأنني لم أحضر، يدور عقلي بسرعة، هل سوف يضاف لفشلي فشل جديد؟ أعمل هنا منذ ما يقارب خمس سنوات، “نون” أول مكان أعطاني لقب كاتبة، فأعطيه أنا خذلانًا بعد أربعة أشهر فقط من الأمومة؟
لا ترد مديرتي على الاعتذار، بدلاً من ذلك تهاتفني لتتأكد أنني لست حزينة أنني فوَّت الاجتماع! ما الذي يحدث؟ كيف لم تلقِ لي كلمة عتاب صغيرة؟ أنا حتى لم أجِب مكالمتها صباحًا!
أفيق فجأة، نعم، لا يجب أن أكون مثالية، أنا أم، أحتاج أن أقوم بدوري كاملاً حتى لو تخليت عن بعض العمل لبعض الوقت، أنا أم في المقام الأول، لا يجب أن أكون أمًا مثالية ولا محررة مثالية، لا بأس من بعض التأخير، هناك من يتفهَّمون ذلك، زملائي في “نون” لم يوبخوني ولم يوجِّهوا لي أي لوم، إذًا هم على حق، وأنا من حقي أن أتعب وأتأخر وأُقصِّر في عملي لبعض الوقت، الأغرب أنهم -دون اتفاق مسبق- يحادثونني ليتأكدوا من أنني بخير، وعندما أشكو لهم تقصيري واعترافي بذلك يضحكون ويخبرونني أن هذا عادي وأنني لا زلت بطلة وأنهم ما زالوا فخورين بي.
أنا أم، أنا امرأة كاملة، أنشر الغسيل وأرتب الدولاب وأقرأ رواية وأكتب نقدًا عنها، أقطع اللحم وأصنع شاورما في المنزل وأكتب مقالاً عن حقوق المرأة، أهدهد طفلي وأعطيه خافض الحرارة وأشاهد فيلمًا لأكتب مقالاً عنه، أرتدي عروسة الأراجوز في يدي وأُغيِّر صوتي مُقلِّدة أراجوز الليلة الكبيرة ليبتسم صغيري، أصنع أرغفة اللحم وأُلَملِم أكياس القمامة وأشرب القهوة، أرد على رسالة عبر البحر تغمرني بالمحبة على مقالاتي، أنتشي وأكتب مقالاً متأخرًا وأبتسم عندما يخبرني أحدهم أنني مُقصِّرة.