عبر أنفاس “زين” عايدني العيد بعد طول غياب

454

من بين زحام التفاصيل المتكالبة عليّ، خلال شهر رمضان المبارك، اقتلعتني كنَبتة صبار قديمة، جذورها ضاربة في أعماق تربة قديمة، راكدة، ورحت أزرعني ثانية كريحانة وليدة في أرضه الحديثة الخصبة، عَلِّي أُزهر وأفيض عبيرًا، بعد طول ذبول.

 

توسدت وسادته الصغيرة، الفواحة بعطره الرائع، برائحة اللافندر البنفسجي، الذي أدمنته شعيرات أنفي واطمأنت في حضرته رئتاي، ورحت أفكر في أول عيد في حياته.. حياة “زين”، صغيري الذي سيتم بعد يومين شهره الثامن.

 

ثمانية أشهر، كانت هي الأغرب والأجمل والأصعب في عمري كله، ورغم صغر حجمه، وحداثة عهده بالتعلق بالأشياء من حوله، ومدّ يده نحوي كلما هممت لحمله، فقد ملأ عليّ حياتي، وحوّلها إلى مغامرة تستحق الصبر والسعي.

 

حملتني رائحة عطره إلى حيث أريد أن يستقبله العيد معي لأول مرة، فوجدتني ممتطية أقدامي نحو المطبخ، أعد لعمل إحدى المعجنات المحلاة، تلك وثيقة الصلة بعيد الفطر، أو بـ”العيد الصغير” كما اعتدنا تسميته، كالبسكويت أو البيتيفور المفضلين بالنسبة لي، واللذين يُخَلِف صنعهما روائح مميزة كالفانليا وجوز الهند والقرفة.

 

صنعت لأول مرة في منزلي، بسكويت بنكهتي جوز الهند والقرفة، واصطحبته معي إلى المطبخ، لتحمل رئتاه الصغيرتين برائحة الأبخرة الشهية كبصمة الإصبع، فلديَّ اعتقاد قديم أننا نولد بتلك الذاكرة الفولاذية للجمال، وكل مشهد ورائحة وصوت يظل محفورًا بداخلها، حتى نبلغ مرحلة الإدراك، وخلالها نبدأ في تكوين وجهات نظرنا وتفضيلاتنا ورغباتنا اعتمادًا على تلك المدخلات العفوية، وعليه: قررت أن تكون رائحة بسكويت العيد هي أول ما يترسخ في ذهن “زين” الصغير عن عيد الفطر.

 

ظللت أمرره بين متعلقات المطبخ الفواحة برائحة البسكويت، فلاحظت انسجامه وبهجته، التي عبَّر عنهما بهزة عشوائية لإحدى قدميّه، والتقاطة مفاجئة من كفه الصغيرة لمصفاة الدقيق، التي حولته وحولتني معه إلى صغيرين، يعبثان بغبار الدقيق، حتى استحال مظهريهما إلى وافدين من زمن آخر، بفعل بياضه وتطاير ذراته.

 

أخذته بعد فسحة اللعب إلى حوض استحمامه الأزرق بلون السماء، ووضعته كعصفور جميل تحمله إحدى السحب بين أحضانها بعناية، وبينما تمشط زخات الماء شعره، خطر لي مشهد هيئته في العيد، وتبعثرت الأفكار في رأسي كحبات الفشار:هل أبتاع له قميصًا وربطة عنق كي يشبه الكبار في الحفلات الرسمية لكن بحجم صغير أنيق، مثير للفكاهة؟ أم سالوبيت طفولية، تحاكي تفاصيلها شهور عمره الثمانية.

 

تطايرت الصور المختلفة لهيئته في مخيلتي المحلقة في سماء حوض استحمامه، واستقرت واحدة بعينها أمامي، وخلال ساعة كنت أحمله إلى أقرب محل لملابس الأطفال من منزلنا، وفي قلبي حملت جِنية نور صغيرة، تضيء أجنحتها كلما استقر في حُلة وزيّنته.

 

وبعد ساعات من الإنهاك المعجون بماء البهجة، عدنا وقد ابتعنا لبس العيد الجديد لزين، قميص كاروهات، بلون السماء والسحب صباحًا، وشورت بلون الرمال على الشاطئ قبل الغروب، ظللت أبدّل ألوان الأحذية حتى استقريت على هذا الدقيق في حلته القرمزية، الذي يعطي هيئته هندام لا علاقة لها بطفل يحمل في جعبته ثمانية أشهر لا أكثر، والآن أصبح عيدي الصغير، “زين” في حلة جميلة تليق باستقبال عيد الناس الصغير.

 

كان كعادته، غير مكترث باللبس الجديد والحذاء الجديد.. استحوذت عليه كرة صغيرة، لونها أصفر كأشعة الشمس، التي عصبت عيناه عما سواها، وحينها لمعت في ذهني نظرية أبيه القائلة “الولد ده بيلبس لبس جديد عشان إحنا نفرح بيه، أما هو فمش هنا خالص ولا فاهم جديد من قديم”.

 

أبدى “زين” تجاهلاً تامًا للملابس والأحذية الجديدة، إلا أنه لم يستطع الالتهاء عن صوت بهجتي بأي شيء ولا حتى بتلك الكرة الذهبية بلون الشمس.

 

رفع رأسه نصف المنتبه بفعلها، ونظر إليّ نظرة غير المكترث التي تثير جنوني، وجدني مبتسمة، فأمسك بيدي وبدأ في هدهدة نفسه على فخذي في تعبير واضح عن السعادة والفرح، شعرت حينها أنه تعبير عن الامتنان الممزوج بماء الفرحة.

 

حملني معه إلى زمان لم يكن فيه، حيث كنت طفلة صغيرة، أحتضن فستاني وحذائي الجديدين، ليلة العيد، من كل عيد، تحملني الفرحة على جناحيها الأبيضين، وتهمس في أذني قطع السحب بأن فستاني سيكون الأجمل من بين المُعيدين، وأن أمي -وعلى غير المتوقع- ستُوفَّق في عمل تسريحة الشعر التي أفضلها، دون أن يغلبها الإنهاك أو الملل.

 

استنشقت عبير الفرحة بالعيد هذا العام، بعد سنوات طويلة من الغياب، منذ ولى عهد طفولتي، عبر أنفاس “زين” وحُلته السماوية الجديدة وحذائه القرمزي الأنيق، سافرت عبره إلى زمن أشتاقه ويشتاقني، فقد كنت طفلة، ذات طبيعة غريبة، لا يمكن للزمن أن ينسى تفاصيل شرودها وحيدة من بين كل الأطفال، ونسيت نفسي الحالية، كأم تحمل بطاقة عمرها ثمانية وعشرين عامًا، لم تنس في أيٍّ منها أن تدلل نفسها بلبس جديد للعيد، حتى جاء عيد هذا العام وقد نسيت كل شيء، عدا “زين”.

 

حقنني الترقب لهيئة زين في العيد بشعور استثنائي بالفرحة، وشعرت بعد طول تأمل أن التفاصيل، هي روح الأشياء الكبيرة، فلولا وجود “زين” كتفصيلة حديثة في حياتي، ما زلت لم أسلم بوجودها كحقيقة بعد، لما شعرت بالسعادة التي تتراقص عبر أنفاسي الآن بينما أكتب هذي الحروف عن العيد في حضرة “زين” لأول مرة، وهكذا تفاصيل دقيقة كثيرة لأشياء كبيرة..

وأنتم ماذا عن تفاصيلكم الصغيرة لفرحة العيد الكبيرة؟

المقالة السابقةأبطال من ورق.. مين يكسب الممثلات ولا الممثلين؟
المقالة القادمةيا ليلة المونديال آنستينا
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا