تستيقظي متعبة للغاية، بعد غفوات قصيرة جدًا تأتيك بين حين وآخر وأنت مستلقية في سريرك بلا حراك، لم تتعمدي النوم، لكنك لم تتعمدي البقاء مستيقظة طوال الليل أيضًا بسبب خوفك من المجهول، أو بسبب تفكيرك الدائم في الغد الذي سيأتي بشمسه البغيضة، بزقزقة عصافيره الحمقاء، بانتعاش صباحه الذي سيضطرك لأن تتحركي من قوقعتك الخاصة، لتجتري ما تبقى من طاقة في حياتك -إن وُجِدَت- لتمارسي النشاطات الإنسانية المتعلقة بالابتسام، الكلام، تناول الطعام، ممارسة المهام الوظيفية أو الدراسية، والأهم من هذا كله، الانخراط بين من ستقابلينهم، مكافحة إحساس اللا انتماء، إحساس الاغتراب، وأنك لم ولن تنتمي أبدًا لهذا الواقع.
تشعرين وكأنك بطلة أسطورية من قصة قديمة في كتاب متهالك، قرأها أحدهم بصوت سحري، فقفزت من الكتاب للواقع المأساوي، ومن وقتها وهي عالقة، أو كأنه كان من المفترض أن تكوني شيئًا آخر أكثر حرية وانطلاقًا، طائر، فراشة، سحابة، أو حتى قطرة مطر، تستطيع أن تنتقل بين كل وأي مكان، دون أن تكون محصورة في حدود الزمان والمكان، مقيدة بهما.
أو لربما تتمنين ألا تكوني أي شيء من الأساس، عدم، حيث الصمت الأبدي المطبق، والراحة الدائمة من عدم امتلاك عقل يذكرك مئات المرات بكل كلمة سخيفة جرحتك يومًا، أو قلبًا يؤلمك كلما تقرحت جراح لم تُشفَ بعد فيه، أو ذاكرة تُذكِرك بأنه ليس ثمة شيء محدد تعيشين لتحقيقه، تُذكِرك بنوبات قلق الليلة الماضية، شلل نوم الليلة التي قبلها، أو بكائك المتقطع كلما استطعت إليه سبيلًا. تُذكِرك بالتحرش الذي حدث لكِ وأنت عائدة من العمل أو الكلية، وبإحساسك الدائم بالفشل الذي ترينه في أعين من حولك، وبالوصم المجتمعي الذي يلاحقك كأنثى.
أفكار كثيرة جدًا متلاحقة، تأتيكِ في هذه الفترة القصيرة جدًا، ما بين استيقاظك وخروجك من السرير، لربما اتخذتِ بعض الوقت لقراءة هذه الفقرة، لكن صدقيني، حين تعايشين الموقف فعلاً، ستتلاحق هذه الأفكار والمشاعر المضطربة بداخلك في مدة زمنية لا تزيد عن دقيقة، فحين تعيشين في مثل هذه الحالة النفسية، كل شيء يحدث بسرعة شديدة بداخلك، بينما هو يسير بالتصوير البطيء لمن حولك.
الأمر أشبه كثيرًا بالسير على الهواء، لكنك لا تكتشفين أنه ليس ثمة جاذبية أرضية إلا حين تنظرين أسفل قدميك تمامًا.. كأفلام الكرتون.
تضطرم مشاعرك جدًا لدرجة ستُشعِرك بالضوضاء، وإن كنتِ تجلسين في أكثر أماكن العالم هدوءًا، فضوضاؤك تنبعث من داخلك، من أعماقك، وتخرج لتملأ العالم المحيط بك. هي غير مسموعة للجميع، لكنها لا تكف عن ملاحقتك كأغنية سخيفة جدًا في إعلان رديء عُرِضَ في أكثر من فاصل إعلاني لفيلمك المفضل، فتحاملتِ على رؤيته، لدرجة أن التصق لحنه برأسك.
تعتمل بحلقك غصة وأنتِ تبحثين بين دولابك عن ملابس تشعرين فيها بالارتياح، بأنك غير ملفتة، بل بأنها تجعلك غير مرئية من الأساس، ويبقى الإحساس الفظيع بالألم القابع في أغوار نفسك، وتبقى الوحدة الدائمة، حتى لو كنتِ تستجلبين الضحكة من أعمق نقطة نور مدفونة بين رماد الحزن الذي يعتريك، ثم تنظرين في المرآة للهالات السوداء تحت عينيكِ، للإحساس العام بالانطفاء الذي يملؤك، وتنتبهين لعدم قدرتك على التعامل مع أتفه مشكلات الكون، كضياع ساعة يدك المفضلة الرخيصة، أو كوب الشاي المسكوب على الموكيت الصغيرة التي تحبين ألوانها، أو الإيميل الذي لم يصل لمديرك أو دكتورك بالجامعة لأن الإنترنت سيئ جدًا، أو انقطاع زر قميصك الزهري اللطيف، لتعرفي أنه ثمة ضيف ثقيل غير مرغوب فيه قد حضر، يجلس دائمًا بالقرب منك، يزحف إلى كل إنش من حياتك، حتى يمتطي ظهرك بالكامل، وقتها فقط يسوقك إلى الأسوء.. الاكتئاب.
قد يلاحظ البعض أنني خاطبت في مقالتي صيغة المؤنث، رغم يقيني بأن الاكتئاب يُلِم بكل البشر مهما كانوا أسوياء، وأيًا كان “جندرهم”، إنما فعلت هذا لأن أغلب الأسباب التي قادتني له كانت تحتمل أنني أحيا كأنثى في هذا البلد، نعم، لم أصف لكم هذه الحالة من وحي كتب العلم النفسي، أو حتى خبرات الأصدقاء، إنما هي ملخص بسيط لعذاب نفسي أمضيته قرابة العامين، بينما لا زلت أدرس وأعمل بجانب الدراسة، ملخص لحياة لم أعرف سبيلاً للتخلص منها، لم يكن ثمة نور وقتها في آخر النفق المظلم، فلم يكن يحوطني سوى الظلام حقًا.
آنذاك، كان الاكتئاب مصطلحًا جديدًا يرد على عالمي، وعالم المحيطين بي أيضًا، كان الأمر يتلخص في أعين الناس باعتباره “دلع بنات”، واستغفار دائم من حالتي المأساوية التي كان الابتعاد عن الله سببًا رئيسيًا فيها، لم يكن هناك منفذ للاعتراف بالإرهاق النفسي، لم يكن ثمة وسيلة أستشف بها أن ما أمر به هو نوبات قلق، وإنها يمكن أن تكون مميتة جدًا مع أنها محض وهم عقلي، لم يكن ثمة أحد حولي يستطيع أن يجتذبني خارج هذه الدوامة، لأنهم كانوا يدفعونني إليها -بالأحرى- تحت مُسمى المواجهة، وتحت عبء تقاليد المجتمع المنوط بالفتاة الشرقية الالتزام بها، ككُتيب صغير تسير عليه، لتعرف كيفية التعامل مع الحياة، فلم أجد بُدًا من زيارة طبيب نفسي في الخفاء، وكأنني أمارس جريمة شنعاء.
واليوم.. أبوح بهذا السر للجميع، لأقول فقط إن الأبواب قد فُتِحت، وعقول الناس قد تغيرت ولو بفارق بسيط، نعم، ما يزال هناك من ينظر لدموع ابنته أو صمتها الدائم أو تقوقعها في غرفتها على أنه دلع بنات، لا يزال أحدهم يرى أن انتقال الفتاة إلى بيئة عمل أو دراسة جديدة قد تكون سببًا في أن تمضي ليلتها في نوبات قلق، أو أن حوادث التحرش التي نواجهها يوميًا قد تجعلها “زومبي”، لكن مع هذا، أضحى هناك أناس يتقبلون، يفهمون، يسمعون، يغيرون من طرق تربيتهم لبناتهم، ولا يلومون الضحية، يدركون أن ثمة ضيفًا غير مرغوب فيه يزورنا، يدعى الاكتئاب، وهو مرض مخيف لا يقل عن الكانسر، وبأن القلوب ليست ملونة بالأبيض والأسود فحسب.