سياسة الاستجداع العادل

5781
نحن نُربّي كل يوم، في كل موقف، نُعطي أمثلة ونماذج، في كل مجاملة وتغاضٍ وتواضع، نربّي، حتى لو لم نكن آباءً لأحد، نرّبي كل من حولنا، ونستعيد ما زرعناه فيهم، على شكل خيبات متكررة.

كيف تصبحين مقصرةً في شيء ليس واجبًا عليك من الأساس؟!

قدمي خدمة لأحدهم مرة، وسينبهر، قدميها ذاتها للمرة  الثانية، وسينظر إليكِ كملاكه الحارس، قدميها للمرة الثالثة وستصبح تلك لمستك الخاصة في حياة هذا الشخص، قدميها الخامسة وسوف يتلقاها كحق طبيعي دون أدنى رد فعل. توقفي عن تقديمها في المرة الثانية عشر، عندها ستكونين مُقصِّرةً في حق هذا الشخص، بل لستِ جديرةً بمكانتك في حياته، بل إنه يستحق من هو أمهر منك.

1. القاعدة والاستثناء

هناك فيلم عظيم يُدعى He’s just not that into you، كانت بطلة هذا الفيلم تخترع للآخرين ممبرات لم يسعوا حتى للحصول عليها، كانت تفكر في كل احتمال، إلا أن يكون الطرف الآخر قد تجاهلها أو رفضها. يحكي هذا الفيلم عن ظاهرة مدمرة في عالمنا نحن الفتيات، نحن نحكي الاستثناءات وكأنها هي القاعدة، نُعمم النوادر، إن خذلك في عز احتياجك له فهو نذل.

ولكن في مرة فعلها أحدهم مع صديقتي ثم ندم وعاد وتزوجها وعاشا سعيدين، نحن نروي هذه القصص ونصنع منها القاعدة، وهي مجرد استثناء. فكرة القاعدة والاستثناء تعمل داخل الشخص الواحد أيضًا، قد يقدم أحدهم تصرفًا نبيلاً واحدًا، فتظنينه أنتِ طبعًا فيه، ثم يتبعه بمئات التصرفات غير النبيلة، ومع ذلك يظل عقلك يبررها واحدةً تلو الأخرى على أنها استثناءات.

2. ليه؟ كُت مؤسسة؟!

رفضت فوزية إعطاء حنفي “شوية حنان” كمقابل لخيانته، معللةً: لييييه؟! كُت مؤسسة؟! خلف خفة ظل التعبير تقع حكمة من طراز خاص: متى استحالت العلاقة عطاءً دون مقابل ومن اتجاه واحد طوال الوقت، ما عادت العلاقة متعادلة، بل أصبحت “مؤسسةً خيرية”.. واجبها أن تعطي وعيب في حقها أن تنتظر المقابل.

هل جربتِ من قبل شعور أن تحكي لصديقتك مشكلة ما، فتجدينها تُغيّر الحديث نحو مشكلة تخصها دون أن تعلق حتى على حكايتك؟ مبروك.. أنتِ مؤسسة بالفعل في حياة أحدهم. هل يمكن أن نلتقي بكل هؤلاء الأنانيين صدفة، أم أننا نصنعهم؟

3. في انتظار التقدير.. خسرنا كتير

شاهدت ذات مرة حديثًا ملهمًا ضمن أحاديث Tedx العالمية، كان يشرح السبب وراء تلقي النساء رواتب أقل من الرجال في كل العالم، ولكنني وقتها وجدت في ذلك التفسير إجابة لكل المشاهد السابقة.. بينما يتكلم الرجال عن أنفسهم، إمكانياتهم، إنجازاتهم، تحب السيدات أن تسمع منك اعترافًا بموهبتها، بإمكانياتها، أن تلاحظها بنفسك، تظل تفعل وتفعل حتى تصل بك إلى هذه النتيجة، وإن لم تصل، تظن دائمًا أنها لم تنجز كفاية، لم تفعل كفاية، فتحاول أكثر وأكثر.. وهكذا، وفي النهاية صورتك عن نفسك هي ما ينعكس إلى مديرك، إن ظننت أنك فنان فيصدقك وإن ظننت أنك مقصرة فهو معك.

4. ولكن الإنصاف عزيز

“ليس من أحسن في شيء يحسن في كل شيء، ولا من أساء في شيء يسيء في كل شيء، وإن الإنسان لا يتمخض للشر وحده ولا للخير وحده، ولكن الإنصاف عزيز”. هذه قاعدة فقهية تصلح كحكمة سياسية وعاطفية وأينما وضعتها تنجيك، فليس من كان أمينًا في عمله بالضرورة سيكون زوجًا حنونًا أو كريمًا، ليس من كان متفتح الذهن في فكرة الزواج بلا رسميات، هو شخص مثقف بالضرورة، أو سيقبل الفكرة عينها لو كانت الفتاة من أهله.

مثال: في الكثير من لقاءات “أحمد فهمي” يتحدث عن حماه “حسين فهمي” وكيف أنه كان رجلاً متفتحًا وبسيطًا، لم يطلب من عريس ابنته الوحيدة أي شيء تمامًا، وقبِلَه على سمعته فقط، في وقت لم يكن فيه مشهورًا حتى. في لقاءات أخرى، ستجد زوجات “حسين فهمي” السابقات، يقفن ضده أمام ساحات القضاء، للمطالبة بحقوقهن المادية بعد الطلاق.

5. سياسة الاستجداع العادل

نحن نُربي فيهم الأخذ كل يوم، نزيد الجرعة كلما اعتادوا على تضحياتنا ولم تعد مبهرةً كفاية، لا نتوقف لنعد ما أنفقناه من وقت وعواطف، ونقارنه بما تلقيناه في المقابل، فنصبح مؤسسات، ثم تأتي عاصفة، نظن وقتها أننا سنجد كل هذه السنوات من التقديم والتضحيات، فلا نجد إلا أشخاصًا تلومنا أننا لم نعد نعطي.

منذ أيام.. قرأت تدوينات قصيرة للعشرات من صديقاتي، المصدومات من فشل قصة الزواج بـ4000 جنيه في 90 يومًا، ذكرتني الزوجة بنفسي، بسيدة استضافها “حسين فهمي” مرة في أحد برامجه، كانت في الخمسينيات من عمرها، وكان عقد زواجها بلا مليم واحد، إلا أنه احتوى على 3 شروط، “لا تضربني، لا تمنعني عن العمل، لا تتدخل في مصارف راتبي”، تذكرت كيف كانت تلك السيدة قدوتي، إلى أن تفهمت الأمر، كانت هي الاستثناء، وكانت القاعدة دائمًا وأبدًا: من أمِن العقوبة أساء الأدب.

لا تتبعي “الاستجداع” بالآخر، لا تُسهِّلي كل شيء، لا تبتلعي التقصير، ولا ترضي بأقل مما تستحقين، ارحلي عندما لا تجدين تقديرًا، وإن سمعتِ قصة نجاح أخرى.. فكري مرتين، أتلك هي القاعدة، أم مجرد استثناء.

المقالة السابقةأن تصبح كومبارسًا في حياتك
المقالة القادمةهم من يدفعوننا إلى النسوية
ندى محسن
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا